شعار قسم مدونات

هل من طريق ثالث بدل الاغتراب وعقدة النقص؟

blogs - city

عند كثير من الشعوب التي سلكت طريق الحضارة والتنمية في عالمنا المعاصر كان التاريخ مصدر إلهام لها، وكانت تجارب الأمم الأخرى مصدر خبرة مفيدة دون الوقوع في عقدة النقص. بينما بقينا نحن نتراوح المكان والزمان، فلم نستطع اخذ العبرة من التاريخ، ولا تخلصنا من عقدة النقص والدونية تجاه الغرب تحديدا وغيره من الأمم بشكل عام. ولم نتعلم من تجارب الأمم التي اختارت طريقا ثالثا.

ولنا في هذا أمثلة كثيرة؛ كوريا الجنوبية، واليابان، وتركيا، وسنغافورة، وماليزيا، وغيرها.

 

تجارب أمم:

علينا أن نفكر في طريق ثالث، يخرجنا من حالة التبطل والاهتلاك الداخلي، والغيبوبة التاريخية، والتقمص لشخصيات حضارية غريبة عنا. علينا بهذا الطريق الثالث لنصوغ نموذج تنمية أصيل، ونهضة حضارية متميزة

فـاليابان، وبالرغم من هزيمتها الكبيرة في الحرب العالمية الثانية، فإنها لم تسكنها عقدة النقص تجاه الغرب وأمريكا تحديدا، كما أنها لم تدخل في غيبوبة تاريخية مع تاريخها الذي تعتز به، بل قام قادتها من السياسيين والعلماء ورجال المال والصناعة بعملية تركيبية كبيرة جمعوا فيها بين تقاليد الشعب الياباني وبين الاستفادة من التقنية والعلوم الغربية، مما حول اليابان خلال جيل أو جيلين إلى دولة كبرى ونموذجا للتنمية والنهضة.

 

أما كوريا الجنوبية فهي نموذج آخر مبهر، وظف تاريخه الديني والثقافي واستثمر التقنية المعاصرة، بالرغم من أنه قبل ستين سنة كان مجتمعا محطما عسكريا واقتصاديا وسياسيا، لكنه قام بالاستفادة من معطيات الحضارة المعاصرة، وحسم خياراته الكبرى، وابتدأ من صياغة منظومة تربوية تعد من أقوى النظم التعليمية المعاصرة، أثمرت نهضة وتنمية صناعية وثقافية وتقنية كبيرة، جعلت هذا البلد صغير الحجم، يفيض بإنتاجه وتكنولوجيته على العالم كله.

 

أما ماليزيا، فإنها عند خروجها من عباءة الاحتلال البريطاني، كانت بلدا متخلفا منسيا، يرزح تحت مشكلات الصراع العرقي والديني الذي تركته بريطانيا، بفعل جلبها للصينيين والهنود إلى أرض الملايو، حتى صار الهنود والصينيون يشكلون قريبا من ثلثي سكانها، وينافسون أهلها في كل ما يملكون. بل أن الانسان الماليزي المسلم تركته بريطانيا فقيرا أميا، معزولا في أرضه، تابعا لغيره.

 

ولكن النخبة الماليزية، وخاصة على يدي محاضير محمد وأنور إبراهيم وغيرهما، ومن ثمانينيات القرن العشرين، رسمت لمجتمعها مشروع مجتمع تجاوز به تلك التمزقات والصراعات، وحددت له الخيارات الكبرى، وتوجهت به إلى تثمين الانتماء التاريخي للشعب الماليزي المسلم، مع دمج الأقليات الصينية والهندية في مشروع المجتمع، وتوجهت به إلى بناء تنمية ونهضة أخرجت ماليزيا من عصور ما قبل التنمية إلى أن تكون أحد النمور الآسيوية سريعة التنمية، وتتحول إلى محجة لكثير من شعوب العالم في نموذج التنمية، والسلم الاجتماعي في مجتمع متعدد الأعراق والأديان، وتتجاوز كثيرا من أعباء التاريخ، دون الوقوع في عقدة نقص تجاه الغرب والحضارة المعاصرة. بل أن من شعارات محاضير محمد، قائد التنمية في ماليزيا، أنه رفع شعار "انظر إلى الشرق"، والمقصود به التعلم من تجربة اليابان وكوريا، بدل الوقوع في أسر النموذج الواحد للحضارة الغربية.

 

وفي مطلع هذا القرن بدأت تركيا تجربة تنموية رائدة، استطاعت به تجاوز الإرث الأتاتوركي عمليا، ذلك الإرث الذي حاول عبثا استبعاد هوية الشعب التركي المسلم وعزل تركيا عن العالم الاسلامي. كما عملت تركيا – بقيادة أردوغان وزملائه- على الانفتاح على تاريخها الاسلامي دون الوقع تحت عبئ التاريخ، وانفتحت على الغرب، والاتحاد الاوروبي خاصة، دون الوقوع في عقدة النقص.

 

صار التاريخ عبئا علينا، بل وقعنا في الاغتراب التاريخي، واستوردنا منه أفكارا "ميتة" بعثنا فيها الحياة، فأوقعتنا في حروب التاريخ، بدل التوجه إلى المستقبل. كما وقعنا في عقدة نقص تجاه شعوب سبقتنا في التنمية والتحضر

وهذا ما جعلها تستثمر إرثها التاريخي إيجابيا في التعبئة الثقافية والفكرية، وتستفيد من انفتاحها على الغرب بما وفره لها ذلك من علاقات سياسية واقتصادية وتقنية، أهّلها للتحول الاقتصادي والسياسي الكبير، الذي نقل تركيا من دولة هامشية ترزح تحت الديون والصراع العلماني على هوية الشعب التركي المسلم، إلى دولة تحتل المرتبة السابعة عشر في سلم التنمية العالمي، وتنافس الاقتصادات الكبرى، وتوجه طاقات مجتمعها نحو بناء تركيا متحضرة ناهضة.

 

وضعنا المضطرب:

أما نحن فصار التاريخ عبئا علينا، بل وقعنا في الاغتراب التاريخي، واستوردنا منه أفكارا "ميتة" -بتعبير الأستاذ مالك بن نبي- بعثنا فيها الحياة، فأوقعتنا في حروب التاريخ، بدل التوجه إلى المستقبل. كما وقعنا في عقدة نقص تجاه شعوب سبقتنا في التنمية والتحضر، فصرنا نجلد أنفسنا، وننكر أصلنا.

 

وكلا الوضعين مهلك، ويقود إلى الاغتراب في التاريخ وخوض معاركه، أو الاغتراب في حاضر غيرنا والوقوع في عقدة النقص نحو الغالب المهيمن على مجريات الحاضر اليوم، والوقوع في أسر مقولاته، ومنجزاته، ونظرته للكون والحياة، وطريقة عيشه.

ولهذا علينا أن نفكر جديا، في طريق ثالث، يخرجنا من حالة التبطل والاهتلاك الداخلي، والغيبوبة التاريخية، والتقمص لشخصيات حضارية غريبة عنا. بل علينا بهذا الطريق الثالث لنصوغ نموذج تنمية أصيل، ونهضة حضارية متميزة، تأخذ العبرة من التاريخ، ولا تتنكر للأصل الثابت، كما أنها تستفيد من الخبرة البشرية الحاضرة بكل انفتاح ودون عقدة نقص.

 

وهذا يحتاج إلى عمل الخبراء، وليس إلى مواعظ الخطباء ولا دجل السياسيين، ولا مواقف المرتزقة، ولا إلى جلد المتغربين عن هويتنا الحضارية، ولا إلى هروب إلى التاريخ. فمتى نعطي القوس باريها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.