شعار قسم مدونات

لماذا نحن مختلفون؟

blogs-workers
لا يسع المدقق في أحوال البشر إلا أن يندهش من كم الاختلافات فيما بيننا؛ فهناك تباين كبير في القدرات والمواهب، وفي المحفزات والمثبطات النفسية، وفي كيفية التفكير والتعامل مع المواقف الحياتية المختلفة. شغلت هذه الاختلافات بال الكثير من الباحثين في علوم النفس البشرية على مر العصور، بدأ من اليونانيين القدماء الذين وضعوا أول تصنيف للبشر على نوعين، أحدهما انطوائي والآخر انفتاحي، مرورا بفرويد وكارل يانج اللذان صنفا البشر إلى أربعة أنواع.

ثم نهاية بما توصلنا له في العصر الحديث من نظرية مايرز بريجز، وعلم السوشيونيكس (Socionics)، اللذان يصنفان البشر إلى ستة عشر نوعا مختلفا من الشخصيات. ومن يدري ما الذي يحمله المستقبل من تطورات! سأحدثكم هنا فقط عن آخر ما توصل له علماء النفس، وسأترك لكم حرية البحث عما سبق من محاولات السابقين لفهم الشخصيات وتحليل دوافعها الخفية. سأتحدث عن العمل المضني الذي أنجزته سيدتان عظيمتان، هما إيزابيل مايرزIsabel Myers (1897-1980)، الباحثة في علم النفس، ووالدتها معلمة الصف الابتدائي كاثرين بريجز. Katharine Briggs (1875-1968).

الانطوائية أو الانفتاحية هما العاملان الأكثر وضوحا في محاولة تقسيم الشخصيات بشكل عام،  فهذين العاملين كانا من أوائل الملاحظات على اختلاف الشخصيات بين البشر.

بدأت كاثرين اهتمامها بعلم النفس عندما وقعت على نسخة من كتاب كارل يانج، الأنماط السيكولوجية C.G. Yung Psychological Types، وألهمها الكتاب بمراقبة أنماط الشخصيات المحيطة بها، ونما هذا الشغف لدى ابنتها إيزابيل في عمر صغير. قرأت كل من الأم والإبنة الأعمال الكاملة لكارل يانج، ثم بدأتا معا بحثا طويلا كانت لبنته الأساسية التلاميذ في المدرسة التي كانت كاثرين تعمل بها، ثم تطور البحث بعد ذلك على يد إيزابيل، التي صنعت نظاما محكما للتقييم واختبار الشخصيات على أساس الطريقة التي يتعامل بها كل فرد مع المواقف المختلفة في حياته. طبقا لنظرية مايرز بريجز، هناك ثمانية عوامل رئيسية متضادة تحدد نمط الشخصية التي ينتمي إليها كل شخص:

1- الانطوائية (Introversion) ويرمز لها بالحرف (I)، والانفتاحية(Extroversion) (E):
الانطوائية أو الانفتاحية هما العاملان الأكثر وضوحا في محاولة تقسيم الشخصيات بشكل عام. وكما علمنا سابقا، فإن هذين العاملين كانا من أوائل الملاحظات على اختلاف الشخصيات بين البشر. الشخصية الانطوائية بشكل عام هي الشخصية التي تنزعج بشدة من المؤثرات الخارجية الصاخبة كالضوضاء والزحام والحركة السريعة والعصبية. يستطيع صاحب الشخصية الانطوائية أن ينتج طاقته بنفسه عن طريق الانعزال عن محيطه الخارجي، فينفرد بنفسه طالبا الهدوء والسكينة، وربما يستعين بكوب من القهوة أو كتاب شيق أو موسيقى هادئة لكي ينفض عن نفسه وعثاء الضغوط اليومية، هذا الشخص لن يتحمس كثيرا عندما تتصل به هاتفيا لتسأله إن كان يريد قضاء الوقت معك خارج المنزل في مكان صاخب. سوف تكون لديه الكثير من الحجج الجاهزة للتملص من التواجد في مثل هذه الأماكن المملوءة بالمؤثرات الخارجية المزعجة بشدة للشخص الانطوائي.

الشخصيات الانفتاحية هي على النقيض والعكس تماما من الانطوائية، هؤلاء الأفراد يحتاجون إلى المؤثرات الخارجية لكي يكتسبوا الطاقة، التحدث مع الناس، التواجد وسط تجمعات كبيرة من البشر، أو حتى الاستماع إلى الموسيقى الصاخبة هي كلها وسائل مهمة للانفتاحيين للحصول على الطاقة. ويظهر هنا التناقض على أشده، فبينما يحتاج الانطوائي للانفراد بنفسه لشحن طاقته، يحتاج الانفتاحي للتجمعات لشحن طاقته، وكلاهما يفرغ طاقته في ما يضاد مصادر الشحن.

2- الحس(Sensing) (S)، والحدس (Intuition) (N):

يكون المفكرون أشخاصا عمليين جدا وقد يصفهم البعض بأنهم لا يمتلكون أي مشاعر على الإطلاق، وهو أمر غير صحيح، فهم يمتلكون مشاعر قوية، لكنهم لا يستطيعون استغلالها.

الحس والحدس هما، حسب توصيف كارل يانج، وظيفتان عقليتان يستخدمهما البشر لجمع المعلومات من العالم حولهم. الشخص الحسي هو شخص يعتمد على حواسه الخمسة (السمع، البصر، الشم، اللمس، والتذوق) للحصول على المعلومات من البيئة المحيطة به. الشخص الحسي يكون مراقبا جيدا للواقع ويستقى معلوماته من الحقائق الملموسة التي يستطيع أن يقيسها بأدوات القياس المتعارف عليها. ويكون الحسيون دوما ماهرين في الأعمال اليدوية والأنشطة الرياضية التي تتطلب السرعة والدقة.

أما الحدس فهو ما أسماه العرب قديما بالفراسة، وما نسميه حاليا بالحاسة السادسة، حيث يقوم الشخص الحدسي بتكوين علاقات بين المعطيات الحسية التي يتلقاها عقله من الحواس الخمس، ويصل بهذه العلاقات إلى انطباعات عامة لا يمكن قياسها بشكل واضح وصريح، ويكون الحدسيون دوما نشطوا الخيال ويمتكلون عقولا فنية ونقدية بامتياز.

3- التفكير المنطقي (T) (Thinking)، والمبادئ العاطفية (F)( Feeling):
التفكير والعاطفة، حسب توصيف يانج، هما وظيفتان عقليتان يستخدمهما البشر للوصول إلى النتائج واتخاذ القرارات بناء على المعلومات التي قامت الوظيفتان سابقتا الذكر بجمعها. المفكرون المنطقيون هم أولئك الأشخاص الذين يقدمون الحقيقة على ما سواها من المبادئ. الحقيقة في العقل المنطقي هي الأفعال التي يجب أن تؤدي إلى نتائج منطقية؛ فإن الموظف الذي لا يجتهد في عمله سيكون مصيره الفصل، بدون النظر إلى أي عوامل شخصية قد تكون سببا في قلة كفاءة هذا الموظف.

هذه نتيجة منطقية لا تتدخل فيها الأهواء ولا الآراء. يكون المفكرون أشخاصا عمليين جدا وقد يصفهم البعض بأنهم لا يمتلكون أي مشاعر على الإطلاق، وهو أمر غير صحيح، فهم يمتلكون مشاعر قوية، لكنهم لا يستطيعون استغلالها، فيفضلون دوما اللجوء إلى المنطق الذي لا يخيب ظنونهم أبدا، لذلك ينجحون جدا في المجالات التي تتطلب التعاملات المنطقية كالهندسة والبرمجة وخلافه.

أما هؤلاء الذين يمتلكون مبادئ عاطفية قوية، فهم الأشخاص الذين ينظرون إلى كل المواقف بنسبية تؤول كل موقف على حسب القناعات الذاتية للشخص نفسه، وهذه القناعات الذاتية تتحدد على حسب ما يتوافق مع الشخص وما يرفضه، وهي تتبدل وتتطور من خلال المواقف الحياتية المختلفة، وعلى حسب الخبرات التي يكتسبها الشخص من التعامل مع الآخرين. وتتكون القناعات دوما بطريقة التجربة والخطأ، ولا تتشابه قناعات شخص مع الآخر بنسبة مائة بالمائة أبدا، حتى لو كانا من نفس نمط الشخصية.

4- اتخاذ القرارات (J) (Judging) واستكشاف البدائل (P) (Prospecting):

هؤلاء الذين يمتلكون مبادئ عاطفية قوية، فهم الأشخاص الذين ينظرون إلى كل المواقف بنسبية تؤول كل موقف على حسب القناعات الذاتية للشخص نفسه.

يعتبر الأشخاص ذوي القدرة على اتخاذ القرارات قادة طبيعيين، كل في مجاله وطبقا لقدراته. ربما يكونون قادة للحشود السياسية، أو ربما يكتفون بإرشاد حفنة من الأصدقاء إلى الاختيارات التي تناسبهم أكثر في الحياة، وقد يتميز بعضهم بالقدرة على قيادة المشاريع الهندسية العملاقة، أو التخطيط لمستقبل العالم في مواضع اتخاذ القرارات المصيرية. وهم في المجمل يستمتعون برؤية نتائج أعمالهم.

أما هؤلاء الذين يتمتعون بالقدرة على استكشاف البدائل ورؤية الأحداث من زوايا مختلفة، فهم أصحاب شخصيات إبداعية خلاقة، يستمتعون بالبحث عن الفرص والاختيارات المتعددة لكل المواقف التي تقابلهم في الحياة، وهذه القدرة بينما تبدو للوهلة الأولى مفيدة جدا للتطور البشري، إلا أنها تأتي مع حالة من عدم الثقة في اتخاذ القرارات خاصة في المواقف الجديدة، التي يجدون أنفسهم مجبرين خلالها على القيام بعمليتين عقليتين معقدتين في نفس الوقت، وهما جمع المعلومات بالإضافة للحاجة إلى اتخاذ القرارات بسرعة، وهو ما لا يجيدونه كثيرا.

في الختام، هل استطعت في هذه التدوينة أن أشحذ عقولكم وقلوبكم لمحاولة فهم الناس في محيطكم الاجتماعي من منظور أكثر تفهما وأكثر حبا؟ أرجو ذلك. دعوني أعرف آرائكم في التعليقات. وإلى لقاء آخر قريبا بإذن الله لنتحدث أكثر عن أنماط الشخصيات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.