شعار قسم مدونات

السّوشيال ميدْيا.. "كثيرٌ من التواصل يَقتُل التواصل"

blogs التواصل الاجتماعي

وأنتَ تُطالع منشورات أصدقائك على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، تتبادَر إلى ذهنك، بقصدٍ أو بدونه، فكرةُ تقريب المسافات بين البشر وإذابة حدود الجغرافيا والثقافة، والتي ساهمتْ في ترسيخها شبكات "السُّوشيالْ ميديا" بدور محوريّ فاعل. تاريخياً، تطوَّر التواصل الإنساني من خلال العديد من الأشكال والحوامِل التواصلية (Supports)؛ فمن زمن التراسُل عبر الشخص أو المبعوث وصولاً إلى زمن البريد الإلكتروني ومواقع الدردشة والتواصل الاجتماعي، مروراً بطرق تواصلية مثل الحَمَام الزاجل وساعي البريد، اختزلتِ البشرية مفهوم التواصل في ربح الوقت والجُهد، كما تقلّصتِ المسافة الجغرافية بشكل سريع، ليَصيرَ بإمكان التواصل أن يحدُثُ "هنا والآن". (La communication se fait en temps réel: Ici et Maintenant).

وعموماً، يمكن القول إنّ شبكات التواصل الاجتماعي، على اختلاف أشكالها وتبايُن أنواعها، تنبني، في الغالب، على تصوُّر تواصليٍّ شبه موحَّد يحصرُ العلاقة بين مستخدِمي هذه المواقع في جانبيْن لا ثالث لهما:

1- التفاعُلية المتبادَلة بين روّاد ومستخدمي الشبكات الاجتماعية، إمّا عبر التعليقات على المنشورات، سواء كانت على حامل مكتوب (نص) أو سمعي بصري (Video/Audio)، أو عن طريق إبداء "الإعجاب أو عدم الإعجاب" بتلك المنشورات.

2- إمكانية التواصل شخصياً مع شخص آخر يتوفر على حسابٍ في نفس الشبكة الاجتماعية، عبر إحداث غُرف خاصة بالدردشة، فُرادى وجماعات، ما ساهم بشكل كبير في تخطّي أيّ حدود ممكنة بين الناس، وإذابة المسافات الزمنية والمكانية بينهم.

مع كثافة مواقع التواصل الاجتماعي (خاصة في جانبها الذي يركّز على الدردشة والتواصل الخاص) وتعدّد وكثرة المستخدِمين لها، أصبحَ التواصل افتراضياً أكثرَ سهولة ويُسراً ونفاذاً، مقابل صعوبة التواصل في الفضاء الواقعي

ولعلّ الاتجاه العام لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي أصبح ينحُو في الآونة الأخيرة، بكثافة، إلى التواصل الشخصي بين المستخدِمين عبر الدردشة أكثر منه إلى التفاعلية عبر المنشورات. إذ يمكن للدردشة نفسها أن تتضمّن كافة أشكال التفاعلية الرقمية، من خلال إمكانية تبادل الصور والفيديوهات، فضلاً عن الرسائل النصِّية المعروفة. وإذا كان التواصل، ومنذ نشأته كعِلم قائم الذات، مجرّد وسيلة لتبادل الأفكار والآراء والانطباعات بين الناس، وفسحة للتلاقُح الثقافي بين شعوب وثقافات مختلفةِ الروافد الحضارية، فإنّ مقاصده "التقليدية" انحرفت وتحوّلت مع الانتشار الواسع للشبكات الاجتماعية إلى جعل التواصل غاية في حدّ ذاته.

ومع كثافة مواقع التواصل الاجتماعي (خاصة في جانبها الذي يركّز على الدردشة والتواصل الخاص) وتعدّد وكثرة المستخدِمين لها، أصبحَ التواصل افتراضياً أكثرَ سهولة ويُسراً ونفاذاً، مقابل صعوبة التواصل في الفضاء الواقعي، إذ سار الناس، أكثر فأكثر، إلى العزلة والانطوائية والانكفاء على الذات، ليجدوا أنفسهم ضحية الفردانية وتضخُّم الأنا. إن كثافة التواصل، في عالم اليوم، وتعدّد قنواته واختلاف حوامله لم تقتُل التواصل في الفضاء الواقعي فحسبْ، وإنما ساهمت أيضاً في قتل مفهوم التواصل افتراضياً كذلك، عبر حصره واختزاله في بُعد الدّردشة الفارغة من أيّ فائدة.

ولعل التواصل يَفقدُ أهميته وفاعليّته ويضلّ طريق أهدافه التي وُجد من أجل تحقيقها، إن تمّ الإفراط في استخدام الجانب الافتراضي منه، كما أنه يُفقِدُ العلاقات الإنسانية الواقعية أيّ طعمٍ ومعنى يمكن أن يساهم في تطويرها والدفع بها قُدُمًا، عِوَضَ اختلاق عداوات مجّانية أو رسم صور وهمية؛ فـالقاعدة تقول "إنّ كثيراً من التواصل يَقتُل التواصل" !

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.