شعار قسم مدونات

إلى صديقي في السجن

blogs سجن

في ليلة الجمعة الموافقة للثامن عشر من شهر مارس الماضي، وأثناء تصفحي لحساب الفيس بوك الخاص بي، قرأت خبرًا أكاد لا أصدق مفاده إلى اللحظة هذه التي أكتب فيها، وكان فيما أتى فيه أن صديقي وأخي "هاني مرعي" قُبض عليه!، ولو وجدت وصفًا ليصف ما بيني وبينه أبلغ من الصديق والأخ لقلت ولكني لا أجد. نعم؛ قُبض عليه لا لسبب يذكر وبغير إنذار مسبق. قراءة الخبر وحدها كانت كفيلة لأن تجعلني لا أقدر حتى على البكاء أو البوح لأحدهم، كان ضربًا أشبه بالحلم فور وقوع الخبر أمام عيناي. 

حالة من الذهول والتية تنتابني، صمت رهيب يخيّم على أرجاء قلبي، العبرات تملؤ عيناي آبية أن تسقط، الكلمات تتلعثم في فمي كما طفلٍ صغيرٍ يتعلم الكلم، ولا أجد ما أُربت به على قلبي سوى "إنا للّه وإنا إليه راجعون" علها تهوّن عليّ. وما كان لي وقتذاك إلّا أن أتبين مدى صحة الخبر، فهاتفت أحدهم سائلًا إياه ما حدث فأبى أن يخبرني، ثم هاتفت آخر فأبى أيضًا إلا أنّي ألححتُ عليه ليطمئن قلبي ويسكن فؤادي ولأهدّأ من روعي، فأخبرني بنبرة حزن لم أعهدها عليه من قبل "نعم يا محمد؛ هاني قد قُبض عليه"، وَددتُ في هذه اللحظة لو أنه لم يخبرني، وددت لو أنني لا أسمع حتى لا أتألم، ولعنت فضولي لأول مرة، وتمنيت لو أنني كنت آخرُ من يعلم. 

ولا أعلم السبب وراء أنني لا أصدق الخبر هذا إلى الآن. ألأن هاني ذاته الذي قبض عليه أم أنني لست متقبلًا الفكرة من بادئ الأمر؟! الفكرة يا هذا أن يكون ليس لك من الأمر شيء ثم يُلقى بكَ في السجن، أن يكون السجن عقابًا لك على عدم ارتكابك للذنب، ولكن لا عجب في ذلك يا صديقي، فالنبلاء عادة ما يضطهدون في كل زمان ومكان، ولقد كان يوسف عليه السلام نبيًا وسُجن.. ولا عجب. 

حين ذهبت إلي الجامعة في غيابك أحسست بأن هناك شيئًا مختلفًا. وما ذهبت في غيابك سوى يوم واحد ولم أستطع إكماله، الدراسة ليست كما الدراسة ولا الكلية كما تعودنا والمحاضرات كئيبة حد الملل

ولعل الأول هو السبب؛ هاني ذاته الذي قُبض عليه!، هاني العفوي حد الجنون، التلقائي حد الذهول، المتواضع حد البهاء، البسيط حد الجمال، الفوّاح أخلاقًا وحبًا أينما حل وارتحل، يسكن القلب على حين غفلة منك، وما رأيت شخصًا على الفطرة مثله، على قدر من الأخلاق والعلم حد العجب، الحافظ للقرآن عن ظهر قلب، المتفوّق دراسيًا وكان هو الأول في عامنا الدراسي الأول وها نحن الآن في عامنا الثاني، وما اختلف عليه اثنان منا يومًا، وإني لأرجو لو أن أبنائي بإذن الله يكونون على هذا القدر من الأخلاق والعلم والتواضع والبساطة والسماحة وَسَيُلْبِسونني لباس الفخر دونما إنجاز. 

أن تكون صديقًا له؛ يعني ذلك أن تكون حافظًا لشيء من القرآن لأنه لا شك سيباغِتُكَ بسؤال وأنت تسير معه، أن تكون صديقًا له يعني ذلك أن تكون ملمًا ببعض الأحكام الشرعية لأنه سيحادثك حتمًا فيها، أن تكون صديقًا له يعني ذلك أن تكون على درايا بتلك الأحداث التي تدور من حولنا لأنه سيواكبك بآخر الأخبار أولًا بأول، أن تكون صديقًا له يعني ذلك أن تعرف ولو القليل عن منارة العلم والعلماء "الأزهر الشريف" لأنه يقدس الأزهر وعلمائه، أن تكون صديقًا له يعني ذلك أن تعرف بعض الشيء عن كل شيء لأنه على قدرٍ لا بأس به من الثقافة العامة، وكم أنا فخور بكوني صديقًا لك يا صديقي. 

أخبرني إذًا يا صديقي من سيكلفني بالكتابة لأكتب فنخرج أخطائًا فنختار عنوانًا سويا، أخبرني يا صديقي من سينقّب عما بداخلي عن مهاراتي التي كنت أجهلها أنا عن نفسي، أخبرني مع من سأذهب لأتناول الفطور صباحًا في جامعتنا "جامعة الأزهر" ثم مع من سأحتسي شاي الصباح، مع من إذًا يا صديقي سأشبك يدي في يده ذاهبين إلى حيث لا نعلم، ثم مع من سأزور الكليات الأخرى التي لا تمتُّ لنا بصلة ولكنه الفضول وحب الاستطلاع، مع من سأجلس في الدرج الأخير لنتحاكى سويا خارج نطاق الدرس حتى إذا ما نظر المحاضر إلينا انتبهنا، من سيودعني في اليوم الذي أذهب فيه إلى قريتي قائلًا بعينين لامعتين "هتوحشني جدًا يا محمد.. ألقاك على خير" ثم يضمني إلى صدره في محاولة منه لأن يبتلعني بداخله.

 

يا صديقي أُوصيك ألا تحزن ولا تجزع ولا تيأس ولا تقنط "إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، كنت دومًا ما أخبرك أنه ما جُعلَ شيءً ليكون سرمدًا، الليل دومًا يفلقه النهار، والعسرُ لا يتبعه يسرٌ وإنما معه، والشدة حتمًا ستزول

من سيحادثني في أجازة منتصف العام قائلًا "أما من لقاء يا صديقي" فأعقُبُه بحروف تملؤها الحنين "عما قريبٌ يا صديقي.. عما قريب"، من سيوقفني واضعًا يده على كتفي قائلًا أريدك أن تحدثني قليلًا عن عيوب نفسي، فأجيبه "يا صديقي لا أجد فيك عيوبًا، أنت جنة يا صديقي"، من حين أكتب سيعلّق "رائع جدًا جدًا يا صديقي.. عاجز عن التعبير.. عظيم بحق يا محمد"، من حين أسير معه فيقول لي "أريدك أن تتلو عليّ، فأتلو عليه فينصت لتلاوتي مغمضًا عيناه"، من سيتلو ثم يقول صوت من هذا، فأفكر قليلًا ثم أجيبه صوت السماء.. عبد الباسط عبد الصمد وتارة محمد صديق المنشاوي وتارة أخرى محمود خليل الحصري، من سيتلو عليّ إذًا يا صديقي ومن سأتلو عليه.

بقيَ أن أخبرك أني حين ذهبت إلي الجامعة في غيابك أحسست بأن هناك شيئًا مختلفًا. وما ذهبت في غيابك سوى يوم واحد ولم أستطع إكماله، الدراسة ليست كما الدراسة ولا الكلية كما تعودنا والمحاضرات كئيبة حد الملل، الجامعة ليست كما الجامعة يا صديقي، ينقصها شيء، ينقصها بسمتك التي لا تفارقك، ولسانك الرطب الذي يفوح عطرًا، وعاطفتك الجياشة التي دائمًا ما تلازمك، ينقصها أنت يا صديقي، أتدري كيف حال البيت بدون أم؟، كان كحال الجامعة بدونك يا صديقي. 

يا صديقي يعلم اللّه أننا نتألم لغيابك ضعف ما تتألم أنت في زنزانتك، اليوم في غيابك يكاد لا ينقضي، عقارب الساعة متمردة معلنة أن لا حراك. يا صديقي أُوصيك ألا تحزن ولا تجزع ولا تيأس ولا تقنط "إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، كنت دومًا ما أخبرك أنه ما جُعلَ شيءً ليكون سرمدًا، الليل دومًا يفلقه النهار، والعسرُ لا يتبعه يسرٌ وإنما معه، والشدة حتمًا ستزول، والأسر بإذن الله سيغدو فرجًا، ومن سنن هذه الأرض أن لا شيء يدوم، ولا عجب يا صديقي لما فُعل بك. وسبق لي أن أخبرتك بأن النبلاء مضطهدون في كل زمان ومكان، وأن في السجن مظاليم كُثر "ياما في الحبس مظاليم"، فصبرٌ جميلٌ إذًا يا صديقي، فصبرٌ جميلٌ عسى اللّه أن يأتينا بك، فصبرٌ جميلُ يا صديقي.. والعاقبة للتقوى. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.