شعار قسم مدونات

من الحسيمة المغربية إلى تطاوين التونسية.. "الربيع الديمقراطي" المتجدّد

blogs - تونس والمغرب
المشهد الأول:
منتصف خريف سنة 2016 (نهاية أكتوبر تشرين الأول)، ستدفع وفاة بائع السمك "محسن فكري" في مدينة الحسيمة الواقعة في الشمال المغربي ساكنة تلك المناطق إلى الاحتجاج على الطريقة "المأوساوية" التي قضى بها فكري (أو شهيد الحُكرة كما لقّبه المغاربة) "مطحوناً" في شاحنة نفايات، بعد حجز سلطات المدينة لمعروضه من السمك وإتلافه. احتجاجٌ ذهبَ حدّ المطالبة بتطبيق العدالة في حق جميع المتورطين والمسؤولين عن مصرع بائع السمك، وكان من أبرز ثماره إعفاء عامل (محافظ) إقليم الحسيمة من مهامّه، وفتح تحقيق قضائي معمّق في ملابسات الحادث وحيثياته.

سُرعان ما ستتسع رقعة الاحتجاج من مدينة الحسيمة إلى المراكز الحضرية والأوساط القروية المجاورة لها، لتصل إلى شكل احتجاجي ضخم وجد تجسيده في مسيرة 18 مايو أيار 2017، بعدد مشاركين فيها قُدّر بحوالي 50 ألف شخص؛ لكن هذه المرة ضخامة الاحتجاج وقوّته تناسَبتْ مع حجم وجرأة تهمة "الانفصال وخيانة الوطن وخدمة أجندة خارجية" التي وجّهها ائتلاف أحزاب الأغلبية في حكومة العثماني إلى المحتجين بالريف منذ سبعة أشهر.

فما كان من نشطاء "حراك الريف" إلاّ أن قاموا بالرد على التهمة بشكل راقٍ ضَرَبَ درساً في الاحتجاج السلمي الحضاري، دفعَ بالحكومة إلى "تفهُّم" مطالب الساكنة والتراجع علناً عن "تخوين الحراك"، والطيران على وجه السرعة لزيارة الريف عقد لقاءات ماراطونية مع الساكنة ومنتخَبي المنطقة، تمخّضتْ عنها وعود بـ"تسريع عجلة مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بإقليم الحسيمة"، فضلاً عن رصد ملايير الدراهم لإطلاق مشاريع تنموية جديدة.

تشكّل المطالب المرفوعة في كلّ من حراكيْ الريف المغربي والجنوب التونسي، في عمقها، مطالبَ ذات حمولة اجتماعية واقتصادية وثقافية بالأساس، تتّصل بالتنمية ومحاربة الإقصاء والتهميش الاجتماعي والمجالي.

المشهد الثاني:
محافظة "تطّاوين" الواقعة في جنوب شرقي تونس، من أكثر المناطق التونسية غنىً بموارد النفط وصناعاته، لكنها أيضاً في الواقع، ولسوء الحظ، من المناطق التي لا تُشغّل مصانع البترول الواقعة على ترابها شباب تطاوين. هذا بالضبط ما دفع ساكنة تطاوين، قبل بضعة أسابيع، إلى التظاهر السلمي والخروج إلى الشارع في للمطالبة بنصيبهم العادل والمشروع من "كعكة التنمية" الاقتصادية والاجتماعية في بلدٍ شهدَ نهاية 2010 في مدينة لا تبعد كثيراً عن "تطاوين" ميلاد شرارة أولى انتفاضات "الربيع الديمقراطي"، والتي لن تبرح حتى أزاحت زين العابدين بن علي من على رأس نظامه "البوليسي" الذي عمّر لثلاثة عقود من الزمن.

مرّة أخرى، وبعد أكثر من ستّ سنوات على مرور ثورة "الياسمين"، يبدو أن التونسيّين لا زالوا أوفياء لروح الشاب الشهيد "محمد البوعزيزي"، ذلك أنهم لم يخطؤوا موعدهم مع الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي الشعارات نفسها التي ردّدوها ضد نظام بن علي.

حراك تطاوين في تونس رفعَ سقف المطالب ليجعلها سياسية متمثلة في المطالبة برحيل حكومة يوسف الشاهد، حيث دفعت الاحتجاجات الشعبية المسنودة بدعم نقابي وحزبي تونسي رئيس الحكومة التونسية إلى زيارة محافظة تطاوين في محاولة منه لتهدئة الأوضاع وفتح قنوات للحوار مع الساكنة، في ظل أنباء عن استقالة محافِظ "تطاوين"..

ولقائلٍ أن يتساءَل: ما أوجه الائتلاف والاختلاف بين المشهديْن؟ وما هي نقط الاتّصال والانفصال بين الحِراكيْن؟
إنّ "حراك الريف" المغربي و"حراك تطاوين" التونسي، ينطلقان من نفس الدوافع والأسباب وينشُدان نفس الغايات، وإنْ اختلفتِ الوسائل وتعددت السُّبل، فالهدف من وراء الحِراكيْن الشعبيَيْن واحدٌ لا يتعدد؛ وهو مطلب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، الذي لطالما شكّل مطلباً محورياً تأسّست عليه معظم التمظهرات الاحتجاجية الشعبية في مختلف دول العالم.

وفي تقديري، فإن الحراك الاجتماعي في الحسيمة المغربية كما تطاوين التونسية، ليس تزامُنهُما وليد الصدفة وحدها، بل هو نتيجة حتمية وطبيعية للسياسات الاجتماعية والاقتصادية التي اتُّبِعَتْ في البلدين ما بعد حراك سنة 2011. إذ يمكن اعتبار ما يجري حالياً من أشكال نضالية واحتجاجية "استكمالاً وتصحيحاً" لمسار الانتفاضات الأولى للربيع الديمقراطي. وكما يقول بذلك خبراء التاريخ والحضارة، فإن الثورات الشعبية تأتي على شكل موجات، إذ عادة ما تعقُبُ الموجة الأولى من الثورة "ثورة مضادّة"، تمثّل خفوتاً وانحناءً لخط الموجة الثورية الأولى، لكن هذا الأخير سرعان ما ينبعث من تحت رماده معلناً عن موجة ثورية جديدة، هي بمثابة استكمالٍ لبناء أو تصحيحٍ لمسار. من هذا المنطلق، يمكن التأصيل العلمي والمنهجي لما يقع في الريف المغربي منذ سبعة أشهر، وما يدور بتطاوين التونسية منذ بضعة أسابيع.

ولعل المتأمل في مسار وطبيعة الحِراكيْن الشعبيين -الحالييْن- في كل من تونس والمغرب، لا يمكنه إلاّ أن يَخلُص إلى الملاحظات والاستنتاجات التالية:

1. تشكّل المطالب المرفوعة في كلّ من حراكيْ الريف المغربي والجنوب التونسي، في عمقها، مطالبَ ذات حمولة اجتماعية واقتصادية وثقافية بالأساس، تتّصل بالتنمية ومحاربة الإقصاء والتهميش الاجتماعي والمجالي. كما أنها مطالب ليست فئوية بل تعني أكبر عدد من الجماهير الشعبية في كِلا البلدين؛ وهو ما جعل المطالب تخرُج من البعد المحلي إلى الطابع الوطني.

لعل سكان مدينة الحسيمة المغربية أعطوْا درساً بليغاً في ذلك وجَد أبرز تجلياته في صور مسيرة 18 ماي التي قامت بتسييرها وتأطيرها لجان خاصة، قصد تفادي أيّ خروج للفعاليات الاحتجاجية عن السيطرة.

2. أكّد كل من الحراك المغربي في الحسيمة والتونسي في تطاوين، بما لا يدع مجالاً للشك، على تجاوُز الطرق "التقليدية" في المطالبة بالحقوق والنضال من أجلها عبر مؤسسات تأطير المواطنين سواءُ كانت نقابية أو سياسية أو حتى جمعيات مدنية؛ فالحراك برْهَن على غياب الوساطات المعروفة، مُحْدِثاً بذلك قطيعة مع عهد وساطة النخب السياسية والنقابية والمدنية بين الدولة والمجتمع.

3. سلمية الاحتجاجات وكثافة المشاركة فيها والإقبال عليها، لا سيما من طرف فئة الشباب؛ هذه الأخيرة التي تشكل قُطب الرحى وعَصَب الحراك وقاطرته الفعلية، من خلال قدرتها على تعبئة الجماهير الشعبية وإذكاء حماسها النضالي. (الشاب المغربي ناصر الزفزافي قائد "حراك الريف" مثالٌ بارز في هذا الصدد).

4. التنظيم السلمي المُحكَم والذاتي الذي أبانت عنه مختلف الأشكال النضالية التي انخرطت فيها ساكنة المدينتيْن (باستثناء وفاة شاب تونسي في تطاوين)، ولعل سكان مدينة الحسيمة المغربية أعطوْا درساً بليغاً في ذلك وجَد أبرز تجلياته في صور مسيرة 18 ماي التي قامت بتسييرها وتأطيرها لجان خاصة، قصد تفادي أيّ خروج للفعاليات الاحتجاجية عن السيطرة، حيث شوهِد المحتجون وهُم يقومون بحماية ممتلكات الدولة والناس من أي اعتداء ممكن.

ختاماً… يمكن القول إنّ أيّ محاولة "تخوين" أو رمي للاحتجاجات الشعبية السلمية بتهمة "الانفصال والعمالة للخارج" لا تعدو أن تكون محاولة يائسة بائسة تسعى الدولة من خلال أجهزتها التسلطية التحكّمية إلى "امتصاص" حماس الجماهير، وتثبيط عزائمها، وتشتيت صفّها، كما أن ذلك ليس بالأمر الجديد على أي احتجاج شعبي ينشُد قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.