شعار قسم مدونات

بروباغندا الحصار

blogs - السعودية والإمارات
عندما تبدأ الأزمة بفبركة، فلك أن تتخيل مقدار اللغط والابتذال والإسفاف الإعلامي والاجتماعي والسياسي والديني الذي سيرافق الأزمة ويؤججها. البروباغندا الإعلامية التي فرختها أزمة الخليج الحالية في الجانب المتنمر، تطلبت استدعاء الاحتياطي الإعلامي في دول الحصار الرئيسية وفي الدول التابعة لها وإعادة شحنه بعد فترة من الركود والكساد بسبب استقرار أوضاع البيت الخليجي قبيل الأزمة، حتى وإن كان ذلك الاستقرار من نوع الهدوء المشوب بالحذر. هذا الفريق الإعلامي كان دائما على أهبة الاستعداد ليس فقط لإعادة تجييشه وتأهيله بما يخدم المصلحة المرحلية لدول الحصار، بل أيضا للتزود بالمادة الإعلامية المفبركة وادعاء ملكيتها لنفسه.

ومما يفاقم من خطورة هذا الفريق هو زيادة الطلب على منتجهم الإعلامي بخس النوعية وعالي السعر. فيبدأون بالتنافس فيما بينهم لتقديم أسوأ منتج إعلامي. ومن أمثلة ذلك، عندما أفاق القطريون على حصار بري وبحري وجوي وقطع للعلاقات الدبلوماسية وكل ما تبع ذلك من إجراءات تعسفية، صوّر إعلام دول الحصار والتبعية الأمر على أن القطريين قد هرعوا للمجمعات الاستهلاكية لتكديس المواد الغذائية لسنوات عجاف قادمة وأنهم "مش لاقيين عيش وزبادي" و"الدوحة مفيهاش سكر يا رجالة" و"مفيش حتة جبنة بس تلاقيها"، وأن القطريين سينتفضون ضد حكومتهم وأن أميرهم قيد الإقامة الجبرية. لأنه من غير المتوقع أن تقول بروباغندا الحصار أن ما حصل فعلا هو اصطفاف القطريين في طوابير طويلة في انتظار أدوارهم للتوقيع على جداريات تحمل صور الأمير تعبيرا عن تجديد البيعة له والولاء للوطن ومن ثم الاصطفاف بطوابير أخرى لشراء سلع دمغت بعبارة "منتج وطني".
 

من علامات فشل الحملات الإعلانية والبروباغندا المغرضة هو التمادي في اللامعقول واللامنطق حتى تصل الفئة المستهدفة في أغلب الحالات إلى مرحلة الاستهجان والرفض الصامت لما تبثه الماكينة الإعلامية المسيسة. خاصة إذا كانت الفئة المستهدفة والفئة محل الدعاية تجمعهم أواصر قرابة.

ومن أخطار التدهور الأخلاقي للإعلام أحادي المنظور هو أولا، ومن خلال علاقة سفاح القربى مع الأنظمة السياسية، محاربة كل وسائل الإعلام المعتدل والحصيف والهادف والمتزن وذو المصداقية. وثانيا صناعة جيل مشتت الهوية. جيل تتنازع فيه القيم بين قناعات الضمير الشعبي الموروث والمتوارث وبين متاهات المؤثرات الإعلامية على الوعي الجمعي المرحلي. فيصبح هذا الجيل مثقلا بأعباء أيدولوجية متناقضة ومتباينة تعزز الإحساس بفقدان الهوية. وحين تتدخل الإدارة السياسية التي هي أصلا تقوم بتوجيه هذا التشتيت الأخلاقي للشعوب باستخدام الأدوات الإعلامية والدينية، تكون المحصلة كارثية وقد تصل الامور الى نقطة اللاعودة. ثم تنتقل عدوى الجرب الإعلامي إلى وسائل التواصل الاجتماعي من خلال شراذم بشرية دخيلة على الثقافة والدين والعرف والأخلاق والمعرفة والحياد والعقلانية لتبدأ ببث سموم الفتنة والفرقة حتى يتحول، على سبيل المثال، موقع للتغريد إلى حظيرة للنهيق والضباح والنعيق.

ثم تمتد بروباغندا الحصار لتشمل المؤسسة الدينية التي تبدأ بتسويق وصفات ووجبات جاهزة مكوناتها عبارة عن خليط من الهمبورغر والكبسة والفول والطعمية اعتمادا على ثقتها بأن هناك فقر معرفي مدقع بأصول الطبخ الديني الصحي. وتبدأ مهمة علماء البلاط باستنباط أساليب متجددة لإحداث فوضى فقهية وتسفيه للعقول وباستثمار الدين بالصراع السياسي مع متابعة ورصد المشاعر وقياس نبض الشارع من أجل تكييف وتعديل الوجبات بما يتناسب والقدرة الإنتاجية للإدارة السياسية والقدرة الاستهلاكية للمتلقي المستهدف. وهذا ما يفسر رداءة المذاق وضعف الجودة وقلة الإقبال وبالتالي كساد المنتج وانتهاء صلاحيته ورميه في الزبالة. وبالطبع لا يكترث علماء البلاط بكل هذا طالما أن ثمن هذه الوجبات مدفوع مقدما وبالعملة الصعبة، وطالما أن أجهزة الرقابة الحكومية متواطئة مع المؤسسة الدينية الموجهة في تسميم الغذاء الفكري لشعوبهم. وبعد انتهاء المرحلة يبدؤون بتلقين أبنائهم وتلاميذهم نفس الأساليب تهيئة لهم للقيام بنفس الدور في الأزمات المستقبلية.

ومن طبيعة التخطيط الاسترتيجي لتضخيم الكوارث هو تكليف أجهزة الدولة ومن خلال البروباغندا بوضع خطط بديلة في حال ظهور جيوب مقاومة نزيهة. فمثلا، قيام دول الحصار بسن قوانين صارمة ضد مواطنيها ومقيمها المتعاطفين مع قطر هو إجراء احترازي وتجسيد لمدى خشية هذه الأنظمة من غلبة الضمير الجمعي المتأصل والأصيل لشعوبها على الأدوات الهشة للسلطة مثل الإعلام والمؤسسة الدينية الموجهة، خاصة إذا فشلت المؤسستين السياسية والدبلوماسية في كسب المعركة بسبب غياب الحجة والبرهان والدليل وتحولت هاتين المؤسستين من مصدر ثقة إلى مصدر تندر! وأقل ما ينتج عن هذه التداعيات هو انعدام الثقة بين الحاكم وأدواته من جهة وبين المحكوم من جهة أخرى. قطر، على النقيض من ذلك، لم تسن قوانين ردعية ولا حجبت قنوات إعلامية ولم تختطف المؤسسة الدينية ولا حتى قطعت إمدادات حيوية عن دول الحصار مما يعكس حجم التناغم والتناسق والثقة بين كل مكونات المجتمع القطري والتجانس بين الضمير المتأصل والوعي المرحلي ويبرهن كذلك على أنه يمكن للأنظمة السياسية ان تدير أزماتها السياسية بالأخلاق كما يمكن لها ان لا تؤزم الأخلاق بالسياسة.

مهما حاولت هذه البروباغندا العدول عن مسارها غير الأخلاقي بعد ذلك وبرغم كل ما يمكن أن تستخدمه من أساليب جدلية وتبريرية وسفسطائية، إلا أنها لن تنجح في استرداد ثقة جمهورها. هذا هو الحال في الأزمة الحالية.

من علامات فشل الحملات الإعلانية والبروباغندا المغرضة هو التمادي في اللامعقول واللامنطق حتى تصل الفئة المستهدفة في أغلب الحالات إلى مرحلة الاستهجان والرفض الصامت لما تبثه الماكينة الإعلامية المسيسة. خاصة إذا كانت الفئة المستهدفة والفئة محل الدعاية تجمعهم أواصر قرابة وروابط أسرية وجوار. فتتحول كل دعاية ودسيسة إلى نقيضتها. فإذا قالت البروباغندا أن القطريين يشكون الجوع والعطش، تتوصل الفئة المستهدفة إلى نتيجة أن شعب قطر، وفي أتون الحصار، ينعمون بالعز والخير.

ومهما حاولت هذه البروباغندا العدول عن مسارها غير الأخلاقي بعد ذلك وبرغم كل ما يمكن أن تستخدمه من أساليب جدلية وتبريرية وسفسطائية، إلا أنها لن تنجح في استرداد ثقة جمهورها. هذا هو الحال في الأزمة الحالية. فدول الحصار تجد نفسها الآن محاصرة من عدة جهات. الاستنكار والشجب الدولي من مختلف الدول ومنظمات المجتمع الدولي الحكومية وغير الحكومية، رفض شعوب المنطقة وغيرها لغة الحصار والتنمر والتسلط وتململ الجبهات الداخلية من سفاهة الأتباع وسطحية اللاعبين الرئيسين في الشق الذي اختلق الأزمة.

في مقابل ذلك، نجحت وتنجح الدبلوماسية القطرية الفاعلة والمؤثرة في كسب المعركة "الأخوية" من خلال تمرسها واكتسابها مهارات التفاوض على مدى سنين عديدة وعلى عدة جبهات ومن خلال العرض الشفاف للوقائع والحقائق بكل شفافية ونزاهة. ففي مقابل القنابل الدخانية التي ألقتها دول الحصار على المحيط القطري، نجحت قطر في اختراق الضبابية وإرسال عشرات الرسائل المفخخة بالغاز للأغراض السلمية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.