شعار قسم مدونات

الليلة التي لا تنسى

blogs تركيا

في الحياة أوقات لا تنسى، مهما تقدم الزمن وتقادم، تلك الأوقات التي تجسدها لحظات الفرح، البكاء، الحزن، الألم، والتي تتجلى في لحظات الإنجازات العظيمة التي تبقى على لسان الأجيال المتعاقبة والتي تخرج من رحم الظلمة والقهر، والخوف والجزع، تلك الإنجازات التي يكون دافعها الحب والخير وصون الإنجازات، والتفكير بأن الفرح الحالي الذي يعيشه هذا الجيل لا بد من حمايته ليزدهر وليعيشه الأجيال القادمة. هذه هي الأوقات التي لا تنسى، ولا أظن أن ليلة الخامس عشر من يوليو/تموز تُنسى.

لم يكن صباح ذلك اليوم كمساءه، ولا الناس فيه وقبله كالناس بعده، فهو اليوم الفاصل في حياة الكثيرين، ليس الأتراك فقط، بل وكل محب لتركيا، ولن يجانبني الصواب لو قلت بأنه اليوم الفاصل في حياة العالم أجمع. كانت شمسه مشرقة تشع نورها المضيء على تلك القلوب التي تسعى وتجتهد إلى الغايات الكبرى بأن تكون بلادهم في مصاف دول العالم المتقدم، تشع هذه الأشعة لتنير درب الطموح الذي يسعى إليه كل من يريد أن يكون على خارطة العالم، تشع هذه الشمس في تلك البقعة من الأرض المسمى "تركيا" لتحكي قصة انجازات وتجربة فريدة نعايشها ونتوق شوقا لكي نستفيد منها. 

أظنني بأن شمس الخامس عشر من تموز أشرقت يومها حارقة لاهبة، فقد كان مساء ذلك اليوم مثلها، وكأن الشمس أشرقت يومها لتقول "حافظوا على هذا النور الذي بين أيديكم، ولا تفرطوا فيه، فما تفعلوه اليوم سيعيش بصداه كل من بعدكم"، وقد كان ذلك فعلا. 

استمرت الليلة الطويلة، ولن يجانبني الصواب لو قلت بأنها كانت أطول ليلة لكل من شهدها وتابع تفاصيل أخبارها، فمن منّا نام أو استطاع النوم وهو يرى نموذجا للإنجاز والنجاح يتهاوى أمامه؟

كنت يومها أستعد لأبدأ في تعلم اللغة التركية، فقد سجلت في أحد المراكز التدريبية وكان موعد بداية التدريب في اليوم التالي من يوم "المحاولة الانقلابية"، ولحبي الشديد للتجربة التركية واجتهادي في الاطلاع عليها ومحاولة الاستفادة منها في حياتنا اليومية قررت تعلم هذه اللغة، على الرغم من بعد المسافة بيني وبينها، إلا أنني كنت مستعدا بشغف لأبدأ أولى المحاضرات، ولذلك قررت أن أقرأ في مساء اليوم الخامس عشر كتابا لكي أصفّي من ذهني كل شيء، وأبدأ نهاري في اليوم التالي بهمة ونشاط، فقررت أن لا أتابع الأخبار ولا أستمع لها. 

قضيت وقتا أذكره طويلا في القراءة يومها، وقد كنت سعيدا مطمئنا في ذلك، ولكن هذه الطمأنينة تحولت وتبدّلت إلى خوف ورعب، بعد رسالة تخبرني "محمد، في تحركات للجيش في تركيا وقطع طرق!!".. 

عندها بدأت ليلتي، شاب محب لتركيا وتجربتها، ويجتهد في التعلم من تجربتها والاطلاع عليها، تفصله عنها آلاف الكيلومترات، إلا أنه متعلق بها، وكان يظن بأن هذه التجربة ستبقى وتستمر، وفجأة يأتيه خبر بأن هناك محاولة انقلابية في تركيا تحدث حاليا. بدأت الليلة بهواجس كثيرة، وخوف كبير، كيف يحدث هذا؟ لماذا يحدث هذا؟ لماذا كل شيء نحبه ونتعلق به نفقده سريعا؟ لماذا كل هذا العذاب؟ ومما زاد الخوف والرعب أكثر تلك الصور التي بدأت تأتي من هناك، للطرق المقطوعة، والدبابات في الشوارع، وإعلان السيطرة على البلاد على الشاشات، وكأن الإنجازات كلها تبخرت في ثواني!!

بدأت الأحداث تتسارع، إلا أن أردوغان لم يظهر!!، هنا زاد الخوف والرعب، أين القيادة السياسية؟ اللهم من تصريح مقتضب لرئيس الوزراء بأن المحاولة الانقلابية صغيرة ويتم السيطرة عليها!، ولكن ما نراه على الشاشات غير ذلك، أين أردوغان؟ لماذا لم يظهر، مرت الساعة الأولى، الثانية، فظهر، لكن كيف؟ ظهر على شاشة الموبايل!!

أردوغان الزعيم، البطل، الذي ملأ الساحات والميادين مخاطبا شعبه وجها لوجه لساعات طويلة، يظهر في أحلك الأوقات وأصعبها على شاشة الموبايل!! ما هذا الذي يحدث؟ هنا شعرت بمدى خطورة الموقف، وأن المحاولة أكبر مما يتم الحديث عنه. شعرت بالغصة، والألم، والخوف، بل وذرفت الدموع عند رؤية أردوغان يتحدث على شاشة الموبايل. نعم، لقد كانت دموع الحسرة والألم، الدموع التي تذرفها عندما ترى نموذجا مفعما بالحيوة والنشاط ومصدرا للقدوة والقوة يتجه نحو اللامعلوم، ولم أكن أعلم بأن هذه الوسيلة البسيطة كانت طوق النجاة لتركيا، ومصدر فرح للجميع. 

مرت الساعات، ولا زلت متمترسا أمام الشاشات، اللابتوب، والتلفزيون، والموبايل، والكثير من المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي كنت أتابعها. أذكر يومها بأنني لم أنم وأنا أتابع الأخبار. جاءتني والدتي تسألني ماذا بك؟ أجبتها "انقلاب في تركيا"!! سكتت لثواني، ولعلمها بأنني أحب هذا البلد، أخبرتني بقلب الأم الذي لا يخطئ "سينصرهم الله، وسيفشل هذا الانقلاب، فقط اهدأ". وقد صدقت. 

مرّت الساعات، الألم لا يزال مستمرا، والدموع المنهمرة لا تزال تنسكب على تجربة نهضوية فريدة من نوعها في عالمنا نكاد نفقدها، الليلة كانت طويلة، شاحبة، مظلمة جدا، إلى أن جاء النور من بين كل هذا، الشعب ينزل إلى الميادين!! يا لهول المنظر، الشعب في الميادين! نساؤه وأطفاله وشيوخه وشبابه كلهم في مواجهة القمع والدبابات، لماذا؟ ألم أخبركم بأن الشمس يومها أشرقت ملتهبة، إذا لا بد أن يكون مساؤها كذلك، التهبت الشوارع هناك، والتهبت قلوبنا معهم ونحن نتابعهم، فرحا بهذا الشعب العظيم الذي ينزل إلى الشوارع لكي يصون تجربته الديموقراطية، وانتعاشه الاقتصادي، وحريته، ذلك الشعب الذي انكوى بالفرقة، والضعف، والكثير من التأخر عن ركب الحضارة، ولا يريد أن يعود إلى ذلك العهد أبدا مهما كلفه من ثمن. 

لم تكن بهجة الانتصار لتركيا وحدها، بل لنا نحن أيضا، ولقلوبنا التي أتعبها الحزن في الليلة الطويلة الحالكة، ولعيوننا التي أرهقتها الدموع، حزنا في البداية وفرحا في النهاية

استمر الشعب يؤدي دوره على أكمل وجه حفاظا على مقدراته، وظهر أردوغان بينهم كما تعود مخاطبا لهم وملتحما معهم، وكذلك القيادات الأخرى، في مشهد لم نره في هذا العالم المعاصر، كيف تكون القيادة في وسط الحشود مدافعين بأرواحهم عن إنجازاتهم! استمرت الليلة الطويلة، ولن يجانبني الصواب لو قلت بأنها كانت أطول ليلة لكل من شهدها وتابع تفاصيل أخبارها، فمن منّا نام أو استطاع النوم وهو يرى نموذجا للإنجاز والنجاح يتهاوى أمامه؟ 

استمرت ملحمة الشعب حتى الصباح، استمريت معهم أتابع من خلف الشاشات وعلى بعد آلاف الكيلومترات، لا أملك سوى الدعاء بأن ينتهي هذا الكابوس، وأن نرى استمرار عجلة الإنجاز دون توقف، فلو توقفت لفقدنا الأمل بأن ينتصر الإنجاز والحب والخير يوما. 

لم تكن بهجة الانتصار لتركيا وحدها، بل لنا نحن أيضا، ولقلوبنا التي أتعبها الحزن في الليلة الطويلة الحالكة، ولعيوننا التي أرهقتها الدموع، حزنا في البداية وفرحا في النهاية. فمن قال أن التعب والجهد يذهب سدى؟ ومن قال بأن زرع الحب والخير لا يأتي بثماره؟ لقد رأينا هذه الثمار في صورة الشعب التركي بكل أطيافه ومكوناته تخرج حفاظا على بلدهم، وواهم من يظن بأنهم خرجوا لأجل شخص واحد، فالشخص يكون قويا أكثر عندما يزرع الحب والخير لكي يحصده في الأوقات التي تحتاج الحصاد. 

ذهبت في صباح اليوم التالي إلى الدورة التدريبية، وعند سؤال المدرب الحاضرين عن الهدف من تعلم اللغة التركية، أجبته "لكي أعيش تفاصيل أيام هذا الشعب العظيم بلغته التي سهرنا من أجلهم ليلة البارحة". وتمتمت قائلا في داخلي "واهم من يظن بأن طريق الإنجاز مفروش بالورود، ولكنه يجمع حوله الورود التي تدافع عنه وتحميه، وتجعله ينمو ويزدهر ويستمر، فلا طريق للخير سوى طريق الإنجاز".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.