شعار قسم مدونات

"الشعارات" تلك الكلمات البراقة التي تطفوا على السطح

blogs - عبد الناصر

ما أكثر كلامنا الذي نقوله دون أن نلقي له بالاً أو نحرره، وأكثر منه الكلام الملغم الذي نعجب به ونتحمس له دونما تحليل أو تفكير. وهذه العادة متأصلة فينا تتملكنا من أيام جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة وحرب البسوس…

ومن شاهد بعض المسلسلات التاريخية يرى بوضوح أن الجمهور يتحمس بشدة عندما يقول ممثل ما، أن "رقاباً ستطي" أو أنه "سيفني القبيلة الفلانية"، وحتى لو أورد نفسه وقومه المهالك بعد ذلك يظل "بطلاً" و"رجلاً" في نظرنا لأن كلماته كانت رنانة تقشعر لها الأبدان وصوته كان هادراً يستميل آذان السامعين ولا يهم ما يحدث بعد ذلك.

لو مارسنا اسقاطا بسيطا لهذا الكلام على واقعنا اليوم، نجد أن البطل أو الزعيم الذي تبحث عنه شعوبنا ليس ذاك الشخص العاقل الواقعي الحكيم مثل "مهاتير محمد" أو "نيلسون مانديلا"، أو أي شخص آخر يحمل مشروعاً عملياً لنهضة حقيقية، بل نرفضه تماماً كما يرفض الجسم فصيلة دم دخيلة عليه، لأن الواقع مر ولأننا لا نريد سماع الحقيقة، نريد فقط من يرفع الشعارات الكبرى والأحلام العظام فنحن سادة الكون و"خير أمة أخرجت للناس" وأساتذة العالم، لذلك نظل متعلقين بأستار قادة ماضين فقط لأنهم حملوا هذه الشعارات حتى لو أهلكوا العباد والبلاد.

حتى مسألة الخيرية نفسها، نستخدمها بمنطق الدم الأزرق، فنعتقد أن خيرية أمتنا نتوارثها أبداً عن جد، ويجلس الواحد منا واضعاً رجلاً على أخرى معتقداً بكماله.

ثم تأتيك المغالطات اللامنطقية بعد ذلك، فبطبيعة الحال أن الشخصية "العنترية" تعتقد أن الشعب ملك لها ولا تترك الحكم إلا على حمامات الدماء فيقول لك قائل: (انظر كيف حال البلد الفلاني بعد فلان)، وبالمناسبة هذا يحسب عليه لا له، فالحاكم الذي يخير شعبه بينه وبين الدمار، ثم يدمره أو يقوده نحو حروب لا قِبٓل له بها، هذا لا يجعله حاكما ناجحاً ولا يجعل فترة حكمه فاضلة أبدا!

و أغلب بلداننا إلى اليوم مازالت تعاني من الجراح التي ألحقتها بها هذه الفكرة المغلوطة. كما أن الخطأ لا يبرر الخطأ، فأيام الثورة الفرنسية وفي خضم الحرب الأهلية، لم يذكر الفرنسيون فترة حكم لويس السادس عشر على أنها فترة ذهبية، لأنهم عرفوا هذه القاعدة جيداً وكان لهم بعد نظر إلى المآلات البعيدة.

نعم، نحن من نصنع طغاتنا، نصنعهم بنمط تفكيرنا الطوباوي الجاهلي، ثم نتباكى عليهم بعد ذلك. إن شخصية القائد في المخيال العربي يجب أن تنضج، وتتجاوز الكلمات والشعارات إلى الأفكار الحية القادرة على تحريك بيئة الركود وإقامة نهضات حقيقية. فالله تبارك وتعالى خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، وليس أينا أجمل شعارات ولا أبرع في التلاعب بالكلمات.

إن الشخصية "العنترية" تعتقد أن الشعب ملك لها ولا تترك الحكم إلا على حمامات الدماء، فيقول لك قائل: (انظر كيف حال البلد الفلاني بعد فلان)!

و حتى مسألة الخيرية نفسها، نستخدمها بمنطق الدم الأزرق، فنعتقد أن خيرية أمتنا نتوارثها أبداً عن جد، ويجلس الواحد منا واضعاً رجلاً على أخرى معتقداً بكماله أو على الأقل بفضله على غيره، متناسياً أن مسألة الخيرية جاءت بشروط، فمالم تأمر بالمعروف من العبادات حتى العدل والإتقان والعلم والنظام والإحسان بمفهومه الشامل العظيم، وتنهى عن الظلم والفساد والعنصرية والجهل… لست خيراً من غيرك وحيثما توفرت هذه الشروط فتلك خير أمة.

و بعيدا عن السياسة، من الكلمات التي تستهوي بعضنا كذلك أن المرأة "جوهرة" أو ماسة، ومن عنده ماسة يجب أن يخفيها عن عيون الناس، وتعتقد المسكينة أن الأمر على هذه الحال فتنسى أنها كائن مستقل ليست ملكا لأحد ليخفيها أو يظهرها! لكن العبارات تكون جميلة جذابة منسوجة بعناية ليرددها الجميع دونما حاجة للتفكير في معانيها أو مآلاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.