شعار قسم مدونات

الاستشراف السياسي عند الإسلاميين

blogs - الدولة الإسلامية
ما عدا بعض المواقف الواعية من الحركات الإسلامية المغاربية والأعجمية، إلى اليوم لم نقف على قرار سياسي حكيم للجماعة الإسلامية عموماً في خضم الربيع العربي.. قراراً مبنياً على استشراف صحيح للمستقبل والواقع مستلهماً من الماضي، بل إن أغلب قراراتهم كانت ارتجالية آنية وليدة اللحظة، والتي غالباً ما كانت تنتهي بنتائج كارثية على الثورات والشعوب، وبقي ما يتكلمون به في أدبيتهم عن فقه المآلات والواقع عبارة عن ترف فكري وتنظيرات ورقية حبيسة الرفوف والأدراج لم تنل حظها من الممارسة والتطبيق، حتى إن الكثير من الطوام والنكبات لم يستشرفوها إلا بعد الوقوع في شركها، والبعض لا يزال يعيش حالة من الذهول والإنكار، وما فتئت هذه الجماعات تتخبط وهي تخرج من قرار كارثي لتدخل في حلول أكثر كارثية، هروباً من الحقيقة والمكاشفة المرة، وإمعاناً في التنكب عن قواعد التفكير السياسي الصحيح.

إن ما يميز الكائن العاقل عن غيره هو إدامة النظر في العواقب والنهايات، وعدم الاغترار بالمقدمات والبداية، وعلى هذه القاعدة قامت فلسفة الإيمان بالله واليوم الآخر وجُعل الفوز والنجاح والنصر لمن عمل للعاقبة والآخرة ونظر في مآلات الأمور ولم يخدع بظواهرها. لذلك كان يعد فقه المآلات الذي تحدث عنه الأصوليون فقهاً استشرافياً، يتصور المستقبل بكل أبعاده ويتنبأ به إلى ما يقارب المطابقة بتلمة أحيناً، خاصة عندما يكون الناظر فيه موضوعياً لا تستبد به العاطفة والتحيز، فيكون أقدر على الاستعداد لمواجهته واستثماره.

ما يميز الكائن العاقل عن غيره هو إدامة النظر في العواقب والنهايات، وعدم الاغترار بالمقدمات والبداية، وعلى هذه القاعدة قامت فلسفة الإيمان بالله واليوم الآخر وجُعل الفوز والنجاح والنصر لمن عمل للعاقبة والآخرة ونظر في مآلات الأمور.

وهذا الأمر يحتاج لخصوبة غنية في الخيال لاستكمال التصور الصحيح على ما ستكون عليه الأمور في المستقبل، ويحتاج إلى التفكير خارج صندوق المحن المحاصر بيوميات المشاكل، ولا يكون الأمر بمحض التكهنات والتخرصات، لذلك يقول نابليون أغلب مؤسساتنا مصابة بقصور الخيال ولولا الخيال لكان الإنسان كالبهيمة، نستطيع الجزم أن فقه المآلات لدى الجماعات الإسلامية في العموم معطل تماما، فغلب ما تتصوره من مآلات هو في حقيقته محض تمنيات مبنية على بادي الرأي من انطباعات ومعلومات منقوصة أو مغلوطة، لأننا غالباً ما نقع ضحية التضليل الذي يمارسه علينا غياب الشفافية وتزيف المعلومات، أو ضحية الأحكام المسبقة، فغالباً ما تكون الخارطة الذهنية لدى الإسلاميين منجذبة بشكل كبير إلى الماضي والتاريخ، تحاول استنطاقه عن إجابات الحاضر وحلول المستقبل.

تتحدث الجماعات الإسلامية في أدبيتها عن فقه المآلات والمستقبل، لكنها لا تستحضر إلا أمثلة قليلة، من مثل قصة ترك نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي بال في المسجد خوفاً عليه من الضرر، وترك قتل ابن سلول زعيم المنافقين حتى لا تستثار النزعة الجاهلية في رؤوس قومه، وترك إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم لأن قريشاً لا تزال حديثة العهد بالجاهلية والكفر، ولا تتفكر بالمآلات السياسية الكبرى للقرارات النبوية المفصلية، بل نجد من يحاول لي أعناق النصوص ليدخلها في سياق الخصوصية النبوية التي لا تتعداه لسواه فيبطل بها الاعتبار والتدبر.

ومن هنا لا يقف البعض وقفة متأنية للإجابة على أسئلة كبيرة. لماذا لم يعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الدولة الإسلامية ويأذن بالجهاد في مكة مثلا؟ وما هي المآلات السياسية التي حققها صلى الله عليه وسلم من دخوله بجوار كافر وحمايته، أليس هو استمرارية الدعوة والتبليغ وإكمال بناء القاعدة الصلبة لحملة الرسالة، كيف لنا أن نتصور المآلات السياسية العظيمة لصلح الحديبية من تحقيق الاعتراف السياسي بالمسلمين وتضاعف عدد المؤمنين ونتائج كثيرة شكلت مقدمات ضرورية للفتح العظيم، هذا الصلح الذي لم يخلو في مقدماته وشروطه من مفاسد جزئية قد لا يتقبله كثيرون اليوم.

إن بعض المفاسد الجزئية قد تفضي لمآلات من مصالح كلية مهمة، لكن البعض وبسبب قصور خياله ينهض لإنكار المفاسد الجزئية لأنها حاضرة محسوسة، ولا يدرك كم يهدر من المصالح الكلية لأنها لا تزال في رحم الغيب وليست في متناول الحس، فيغتر بالعاجلة عن الآجلة.

فقه الواقع اليوم قد تحول إلى حالة نظرية بسبب سرعة التبدلات والمتغيرات ليصبح الواقع بعد إدراكه جزءا من الماضي، وقبل إدراكه من أمر المستقبل، مما يحتم علينا مزيدا من التفكير الاستراتيجي القائم على الاستشراف للمستقبل بحصر كل السيناريوهات المحتملة.

وإن بعض المصالح الجزئية قد تفضي لمآلات من مفاسد كلية، فتجد البعض بالمقابل يفرحون بتحقق مصالح جزئية آنية، ولا يفطنون أن ما يفرحون به هو مقدمات لمفاسد كلية دائمة عامة ومصائب قادمة. لذلك نلاحظ دأب الغلاة المزايدة بالمصالح الجزئية، كنوع من الخطاب السياسي الذي يستدر به عطف الغوغاء، والذي يوهمك أن القوم يحصدون المصالح للأمة، فيخوضون المعارك الجزئية من ملاحقة بسطات الدخان ولباس النساء وصالات البلياردو في زمن الصرعات الكلية التي نخسر فيها الإنسان والأوطان والانتماء، والناس بطبيعتها تنخدع بمن يكلمها بالمصالح وتحبه بجانب المصالح المتوهمة، وتكره من يحذرها من المفاسد ولو كانت المفاسد يقينية متحققة. وهذا هو الفرق بين من يقفون مع الأمة وقت الهزيمة والنكبة، لرفع معنوياتها ومحو آثار الهزيمة من النفوس، وبين من يخجلون من الظهور يوم النصر للحصاد الإعلامي لتختزل تضحية الشهداء بمجدهم الشخصي، ويؤثرون العمل في الخفاء وبين من لا يحسن العمل إلا تحت الأضواء ولا يجيد إلا خطاب البشريات ولو كانت بيعاً رخيصاً للأوهام والأمنيات.

وهو نفسه سبب الظهور الإعلامي لتدشين المعارك وزف بشارات النصر الذي لم يكتمل بعد ليلقيه على كرسينا جسداً مشوهاً، والدخول في السرداب والغيبة عند وقوع البغي والمظالم وعندما تقتضي الرجولة والشهامة منه تبين المواقف والحقيقة.. في ظني أن الواقع اليوم تعتريه حالة من السيولة، فأنت أمام واقع مركب من نسيج معقد من المعطيات والمكونات وغامض لغياب كم كبير من المعلومات التي تجلو حقيقته. وأغلب الإسلاميين يتعاملون مع الواقع بفقه انطباعي لا يخضع لا للاستبيان ولا للإحصاء فلغة الأرقام لديهم مهدورة، وغالبا ما تقوم النظرة الأيديولوجية الضيقة لديهم واستصحاب أحاديث الفتن والملاحم مقام البحث والإحصاء والسبر وتدبر فقه السنن الربانية المطردة في الأمم والحضارات والجماعات والدول، فيرسمون واقعاً مغايراً تماما للحقيقة من محض تخيلاتهم وما يشتهون، يعتريه العمه المظلم.

مما يجعلهم جاهلين بواقعهم فضلا أن يكونوا فاهمين لواقع خصومهم وأعدائهم، ثم إن فقه الواقع اليوم قد تحول إلى حالة نظرية بسبب سرعة التبدلات والمتغيرات ليصبح الواقع بعد إدراكه جزءا من الماضي، وقبل إدراكه من أمر المستقبل، مما يحتم علينا مزيدا من التفكير الاستراتيجي القائم على الاستشراف للمستقبل بحصر كل السيناريوهات المحتملة، ووضع كل الخطط المستقبلية الناجعة لمواجهتها، وإلا فنحن نسير بلا بوصلة ونسلم أشرعتنا من جديد للريح الهوجاء تقذف سفينتنا إلى المصير المجهول أو الهلاك المحقق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.