شعار قسم مدونات

رابعة وغزة.. جِراح الأُمة المربية

blogs رابعة

لا يبدو أن جيلًا منذ سقوط الدولة العثمانية إلى يومنا لم يتعرض لمعاصرة نكبة أو حرب أو ثورة على أرضه أو في مكان ما في هذا العالم، إلا أن العالم الذي أصبح قرية صغيرة، تنفذ إليه من خلال شاشة صغيرة في جيبك أو حقيبتك، في حلك وترحالك، يجعلك أكثر التصاقًا بكل أحداثه، ومتأثرًا باقتصاده، وسياسته، وعلومه، وتقلباته.

هذا الاطلاع الواسع، والتفاعل الكبير مع كل الأحداث التي تشكل حالة محورية لحشد من الشعوب؛ تصنع تأثيرها على المدى البعيد، ولا تنتهي عند حدود التفاعل اللحظي، ولا عند انقضاء جولة في معركة مستمرة، ولا عند انتزاع حق أو ضياعه من جديد، فأجيال تتابع عبر الشاشات، صغير وكبير، يتأثر بالحوار على هامش الشاشة، ويقدم رد فعل، ويخزن صورة، ورأيًا، ثم تفعل هذه الذاكرة فعلها عندما يستدعيها حدث أو مواجهة.

دفع هذا التوفر للتقنية والوفرة من حيث تغطية الحدث أحيانًا إلى إيجاد حالة من التوأمة والارتباط المصيري كالحالة بين مصر وغزة، أو مصر وفلسطين، والتي رغم قتامة المشهد إبان الحرب على غزة عام 2009، وتواطؤ مبارك مع الاحتلال لتعلن ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية الحرب على غزة من أرض مصر، فإن الثورة المصرية عام 2011 جعل أرض مصر هذه المرة حاضنة لإتمام صفقة تبادل تاريخية بين فصائل المقاومة الفلسطينية على رأسها حماس والاحتلال الإسرائيلي، في مشهد تلقاه الشارع العربي والفلسطيني بالاحتفال التاريخي، حدث عزز قدرة الفلسطيني على الانتصار والتفوق على عدوه، ولتعاود مصر من جديد تعزيز توأمتها للفلسطينيين بدورها في التعجيل بوقف الحرب على غزة عام 2012 والتي لم تتجاوز الأيام الثمانية في ظل أجواء عالية من التضامن والتفاعل.

إذا كانت انتفاضة القدس التي اندلعت عام 2015 ثمرة للبطولة التي تابعها العالم عبر الشاشات الكبيرة والصغيرة في صيف 2014 في غزة؛ فإن الصمود في القدس عام 2017 دفاعًا عن المسجد الأقصى كان استلهامًا من رابعة في صيف 2013
إذا كانت انتفاضة القدس التي اندلعت عام 2015 ثمرة للبطولة التي تابعها العالم عبر الشاشات الكبيرة والصغيرة في صيف 2014 في غزة؛ فإن الصمود في القدس عام 2017 دفاعًا عن المسجد الأقصى كان استلهامًا من رابعة في صيف 2013

وصولًا إلى رابعة والاعتصام الشهير عام 2013، الذي كان مربيًا ومعلمًا، وشاهدًا على ثبات من يؤمن بفكرة ما تعاقب الليل والنهار، حاضنة لكل صاحب علم، ولكل صاحب مهارة، وشاهدًا على بشاعة المتآمر، الذي يدوس الوطن وأبناء الوطن بجنازير الدبابات لأجل كرسي، ومنصب، وإرضاءً لللاعبين المتنفذين في المنطقة.

ثم في 2014 حرب غزة، ومسافة الصفر، والإبداع المقاوِم؛ إنتاجًا، وذكاءً، وصمودًا، والتي إن فقدت مصر عمقها وجارتها؛ تآلف لأجلها كل الفلسطينيين، في حالة تضامن شعبية عامة، اجتماعيًا، وميدانيًا، تصاعد معها قمع الاحتلال للمتضامنين من أبناء الداخل المحتل؛ ليعود الفلسطيني إلى ذاته، يؤمِّن لها ما لن يجده لدى الدول المحيطة، ولن يأتي من خارجه.

فإذا كانت انتفاضة القدس التي اندلعت عام 2015 ثمرة للبطولة التي تابعها العالم عبر الشاشات الكبيرة والصغيرة في صيف 2014 في غزة؛ فإن الصمود في القدس عام 2017 دفاعًا عن المسجد الأقصى كان استلهامًا من رابعة في صيف 2013.

لا يمكن تجاهل الأحداث الصغيرة، المقاومة، ومحاولات شق عتمة الليل بعصا العزيمة ولو تفرد أهلها، هنا في فلسطين؛ وفي غيرها، من مجموع كل التحركات في الميدان والإعلام

ليخرج الناس إلى إجازة الصيف؛ إلى مدرسة الأمة الكبرى، فيتشربون البطولات، والأفكار، والاعتراضات، وفي جوف كل منهم ما ينسجم مع قناعاته، أو ما حل بديلًا إثر صدمة الانتباه لقضايا كبرى تصنع أبطالها، وتصطفيهم.

الصيف الملتهب لا يحمل أطيب الثمار فحسب؛ بل يدخلنا جميعًا في دورة تدريبية في خضم معركة تدافع كبرى، نستقي فيها معارفنا، ونحدد مواقفنا، ونُنضج رؤانا، ونستلهم من تجاربنا المختلفة الدروس والعبر، ونُعد أنفسنا لما قد تحمله الأيام، وما قد تفرضه علينا.

أمام هذه الحالة العامة، والتربية العامة للأمة، يصعب تجاهل الأحداث التي لا تُنسى، ويصعب تحجيم أثرها، إذ لا زالت دماء المصريين، وأسماء الشهداء، والمساجد المكتظة بهم، والجثث المحترقة، والإعدامات، والمحاكمات، والملاحقات، والهرب إلى المنافي، وما رافق ذلك من بث إعلامي، لا زال وسيبقى يُذكر مَن لم تصمُه أذناه عن الإبصار والإدراك، كما يصعب تجاوز حرب غزة.

وبين ذلك كله لا يمكن تجاهل الأحداث الصغيرة، المقاومة، ومحاولات شق عتمة الليل بعصا العزيمة ولو تفرد أهلها، هنا في فلسطين؛ وفي غيرها، من مجموع كل التحركات في الميدان والإعلام، والتي رفدت بشكل أو بآخر تلك الأحداث الكبيرة لتتدفق الينابيع وتصنع لها أخاديد وجداول ستبقى في الذاكرة، يغذيها الذكر فتزهر وتبقى ملهمة، مربية، فاصلة في حياتنا كأفراد، وجماعات، ومجتمعات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.