شعار قسم مدونات

لعبة العروش.. في الحنين إلى زمنٍ "قبل ليبيرالي"

blogs - Game of Thrones
في كتابِه "ما بعد الفضيلة" يذكر فيلسوف الأخلاق ألاسدير ماكنتاير أنّ كلّ نظريّة أخلاقيّة تفترضُ سوسيولوجيا ما، أو تُنظِّرُ لسوسيولوجيا ما. تبدو الفكرة، رغمَ عدمِ حضورِها دائماً، منطقيّة إلى درجة البداهة، فكلُّ منظومة أخلاقيّة يجبُ أن تفترضَ شكلا من العلاقات والنّظام وتوزيع الأدوار في المجتمع بحيث يُمكنُ بالاستناد إلى هذا التنظيم تحديدُ ما هو واجبٌ تجاهَ الآخرين وما هو مُحبَّذٌ وما هو مرفوض. مع أنّ الأخلاقَ تبدو مجرّدة ولاتاريخيّة في أصولِها، إلا أنّه لا يُمكنُ التفكير في أخلاقٍ مُتعيِّنة أو تطبيقيّة من دون تنظيمٍ اجتماعيّ تتحدّد بموجبِه العلاقات والحقوق والواجِبات والممنوعات.

سوسيولوجيا لعبة العروش
نحن نتحدّثُ عن سوسيولوجيا قروسطيّة بشكلٍ عام، وأهمُّ ما يُميّزُ هذه السوسيولوجيا هي فكرة الـ "estate" وتعني شيئا شبيها بـ "الطّبقة" أو "الفئة" التي تتحدّدُ بالولادة ويظلُّ الشّخصُ منتمِياً لها في حياتِه، ولا يتمكّنُ من الخروج من حدودِها إلا بامتلاك قدراتٍ متميّزة جدّا، ويظلُّ هذا الخروجُ محدودا في سقفِه على أيِ حال.

مَثلا، هنالك سلالات ملكيّة، مثل تارغيريان، ومن ينتمي لهذه السلالة يمتلكُ حقّا في المُلك، والوريثُ الشّرعيّ للمُلك من هذه السلالة يُصبحُ الملكَ مهما كان فاسِداً أو غيرَ مؤهَّل، مثلَ الملك المجنون. بالتّالي، لا يُمكنُ تغييرُ الملك إلا بالوفاة أو بقتلِه، سواءٌ من خلال الثّورة عليه أو بالاغتيال. تُنتِجُ الثورةُ الناجحة سلالة ملكيّة جديدة مثلَ سلالة باراثيون. يَصِحُّ الأمرُ نفسُه على اللوردات أو عائلاتِ النُّبَلاء التي تحكمُ منطَقة مُعيِنة، مثلَ عائلات لانيستر وستارك وتايريل وغيرهم.

بعدَ الملوك والنبلاء، هناك الحِرَفيّون والمُزارِعون، وهؤلاء يتناقلون المهنة ومعها الوضع الاجتماعيّ عبرَ الأجيال، ولا يطمَحون إلى أن يُصبِحوا نُبَلاءَ ولا مُلوكاً. وبعدَ هؤلاء، تأتي طبقةُ العبيد، وهؤلاء يقَعون في أسفلِ السُّلَّمِ الاجتماعيّ.

بالإضافة للطبقات السابقة، هنالك "طبقة" أو بالأحرى "فئة" مُتميّزة تُمثِّلُها مجموعةٌ من الاختصاصات، هي "رجال الدّين"، والحكماء/الأطبّاء، أو "The Maesters"، والفُرسان، والمُستَشارون. ما يُميِّزُ هذه المجالات أنّها تُشكِّلُ فُرصةً لمن يرغبونَ في الترقّي الطّبَقي، فهذه المجالات تُطبِّقُ مبدأ ال "Meritocracy" أي أنّ موقعَ المرءِ فيها مرهونٌ بقدراتِه وتميُّزِه، فهي ليست مجالاتٍ يُمكنُ أن يبرعَ فيها أيٌّ كان، ولا يتحدّدُ موقعُ المرءُ فيها بصفة موروثة كالنَّسَب، بل التميُّزُ فيها يتطلّبُ قدراتٍ خاصّة واجتهاداً وتحصيلاً. تُشكِّلُ هذه "الطبقة" إذن مُتنفَّساً اجتماعيّا لمن ليسوا نُبلاء ولا ملوكاً لكي يترقّوا اجتماعيّا، بل حتّى ليُصبِحوا مؤثِّرينَ على النبلاء والمُلوك والتأثير في مسارات السياسة ومصائرِ الدُّوَل. من الأمثلة البارزة على هذه "الطبقة" اللورد فاريس واللورد بيليش وميساندي كممثّلين لفئة المستَشارين، وبريانا وجوراه كمُمثّلين لفئة الفُرسان، وميليساندرا والـ (High Sparrow) زعيم جماعة المتشدّدين كمثال على رجال الدّين، وسام تارلي واللورد بايسيل كمثال على فئة الحكماء/الأطبّاء.

undefined

بطبيعة الحال، مجرّدُ كون المجتمَع ينقسمُ إلى طبقات أصبحت فكرةً ينزعجُ منها إنسانُ الزّمن الحديث، فضلا عن أن يقبلَ هذا الشَّكلَ من التقسيمِ الطبقيّ. لا شكّ أنّ الطّبقاتِ موجودة اليوم، لكنّ اليساريّ -الشكلَ الشائعَ منه على الأقلّ- يعيشُ على أمل تقليص الفروق بينَ الطّبقات من خلال الدّولة، واليمينيّ الليبيراليّ يُريدُ إقناعَ المجتمَع، طبقتَه الدُّنيا تحديدا، بأنّ بإمكانِ الجميعِ أن يُصبِحوا طبقةً وُسطى لو أرادوا من خلال العملِ والاجتهاد وآليّاتِ السّوق. بالتّالي، فاليساريّ يرفُضُ وجودَ الطّبقات ويسعى للقضاء على الطبقيّة بشكلٍ منهجيّ من خلال الدّولة التي تُعيد توزيعَ الثّروة بوساطة الضّرائب وتنظيم السّوق، واليمينيّ الليبيراليّ يقولُ إنّ الطبقاتِ موجودة ولا يُمكنُ القضاءُ عليها منهجيّا، لكنّ بوسعِ من يَشاء أن يخرج من الطبقة الدّنيا إلى الوُسطى، وبالتّالي فبالإمكان، نظريّا على الأقلّ أو ربما يوتوبيّا، أن تنتهيَ الفوارقُ الطبقيّة الكبيرة من خلال السّوق.

لكنَّ الإنسانَ في المجتمَعاتِ الليبيراليّة الحديثة، سواء أكان مائلا نحوَ اليمين أو اليسار، أو كان مُجرّدِ أحدِ أولئكَ الغربيّين الذين يخرجونَ للعملِ في الصّباحِ الباكر ويعودونَ منهَكين في المساء ليُشاهدوا التلفاز.. هذا الإنسان يشعرُ بإحساسٍ عارمٍ ودائمٍ مفادُه أنّ عليه أن يتغيّر، أن يُفكّرَ فيما يجبُ عليه فعلُه ليُصبحَ أفضلَ أو أغنى أو أذكى أو أجملَ أو أكثرَ وسامة أو أكثرَ رشاقة. لا تُترَكُ فرصةٌ لهذا الإنسان ليشعرَ بأنّه جيّدٌ كما هو، أو أنّ وضعَه مقبول، أو أنّه إن كان راضياً بما هو عليه فلا بأس.

هنالكَ دائما معركةٌ ما يجبُ أن تُخاض، سواءٌ أكانت معركة ثقافيّة من قبيلِ الاعتراف بحقوقه كعرقيّة تعرّضت للعنصريّة أو كامرأةٍ عانت من التمييز أو كذي سلوك جنسيّ تعرّضَ للرفض، أو كانت معركةً مادّية من قبيل الترقّي في السّلّمِ الوظيفيّ أو الاستقلال عن ربّ العمل وتأسيس عملٍ مستقلّ أو ما شابه. هنالك حاجةٌ دائمةٌ لإعادة اختراعِ الذّات، طبقيّا أو ثقافيّا أو اجتماعيّا أو سيكولوجيّا او بعضَ ما سبقَ أو كلَّه. رغمَ الاختلاف الكبير بين خطّة اليسار لإلغاء الطّبقات وبين توكيدِ اليمين على قدرة من يَشاء على اختراقِ الطّبَقات، تتضافرُ رسالتا الفريقَين في توصيلِ رسالة للإنسان الغربيّ الحديث مفادُها: يجبُ -لا يُمكنُ وحسب- أن يكونَ وضعُكَ أفضل.

يُضافُ لذلك أنّ الاقتصاد الحديثَ تغيّرَ بشكلٍ كبير، وكان لهذا التغيير آثارُه الكبيرةُ على طبيعة ال"طبقة" وتجلّياتِها في المجتمَع. كأحدِ أهمِّ مظاهرِ ذلك، أصبحَ لدينا ما يُعرَف بال "gig economy" وهو الاقتصادُ الذي يقومُ على علاقاتٍ إنتاجيّة مختلِفة عمّا عرفَه الإنسان منذ فجرِ التّاريخ. هذا الاقتصاد يقومُ على علاقاتٍ قصيرة المدى زمنيّاً، من خلال العمل الجزئيّ (part time) أو التعاقُدات قصيرة المدى أو المُرتَبِطة بأداء مهمّة مُحدّدة وما صار يُعرَف بالـ (Free Lancer). هذه العلاقاتُ أيضا تتميّزُ بانحسارٍ كبيرٍ في بُعدِها الإنسانيّ، فلو نظرنا للعلاقاتِ بين المُزارِعين في حقل أو العُمّال في مصنَع أو الحرَفيّين المُتجاورينَ في شارع أو الأطبّاء والمُمرِّضينَ في مستشفى أو حتّى الموظّفين في شركة، سنجدُ بعداً إنسانيّا يتمثّلُ في وقتٍ أطولَ يقضونَه معا، وتبادلٍ مستمرّ للحديث والنقاش والمِزاح، وربّما التزاور والتواصل الاجتماعيّ وحتى نشوء الصّداقات والارتباطات العاطفيّة.

جاءت وسائلُ التّواصلِ الاجتماعيّ لتعزّزَ هذه التغيُّرات، فضغطُ النّجاح والإنجاز والجمال والشُّهرة يُطاردُ المرءَ من لحظةِ استيقاظِه إلى لحظةِ نومِه، بل في أحلامِه.
جاءت وسائلُ التّواصلِ الاجتماعيّ لتعزّزَ هذه التغيُّرات، فضغطُ النّجاح والإنجاز والجمال والشُّهرة يُطاردُ المرءَ من لحظةِ استيقاظِه إلى لحظةِ نومِه، بل في أحلامِه.

أمّا العلاقاتُ قصيرةُ المدى في اقتصاد الـ (gig economy) فهي تتمّ في الأغلبِ الأعمّ من خلال تواصلٍ إلكترونيّ ومحدودٍ جدّا في بُعدِه الاجتماعيّ. هذا التّغيُّرُ الكبير أوجدَ انفصالاً واسِعا بين المهنة والتّواصلِ الاجتماعيّ، في حين كانت مهنةُ الإنسان أحدَ أهمّ مُحدّداتِ مجال الإنسان الاجتماعيّ. يُضافُ لذلك الرواجُ الكبير لفكرة الاستعاضة بمهارات (skills) متنوّعة وأخذ مساقات (courses) في مجالات مختلفة عوَضا عن تعريف النّفس من خلال اختصاصٍ جامعيٍّ مُحدَّد أو مسار مهنيّ (career) مُعيَّن.

ثمّ جاءت وسائلُ التّواصلِ الاجتماعيّ لتعزّزَ هذه التغيُّرات، فضغطُ النّجاح والإنجاز والجمال والشُّهرة يُطاردُ المرءَ من لحظةِ استيقاظِه إلى لحظةِ نومِه، بل في أحلامِه. لم يعدِ النَّجاحُ حصيلةَ عمرٍ طويلٍ في مهنة، أو كشفا علميّا بعدَ سنواتٍ من البحث المُضني، أو تأليفَ كُتُبٍ بعدَ عُمرٍ من القراءة والدَّرس والمُباحَثات والمُناقَشات، بل صارَ أمراً يجبُ أن يحدثَ كلَّ يوم، وأن يكونَ من المُمكنِ الحديثُ عنه بطريقةٍ تُثيرُ الإلهام وتحصدُ الإعجاب، وأن يكونَ صالحا للترجمةِ إلى صورٍ برّاقة أو فيديوهاتٍ مشوِّقة. تخيّلَ مثلا مُدرِّساً في مدرسةٍ ابتدائيّة، يقضي ثلاثينَ عاما في تدريسِ الأطفال مادّة الرياضيّات. معَ أنّ هذا الشَّخص يقومُ بمهمّة عظيمة واستثنائيّة، إلا أنّه لن يجدَ في عالمِ وسائلِ التّواصلِ ما يُثيرُ اهتمامَ النّاس، فلا هو يُسافرُ كلَّ شهرٍ أو أسبوع، ولا هو يلتقي بأشخاصٍ مُهمّين، ولا مهنتُه من النّوعِ الذي يشهدُ الكثيرَ من اللحظاتِ المُلهِمة والاستثنائيّة التي تُثيرُ إعجابَ الجمهور. شخصٌ كهذا لن يشعرَ أنّ له مكاناً في هذا العالم الذي تخلقُه السوشال ميديا، والذي يخلقُه زمنُ البحثِ عن إعادة اختراعِ الذّات في كلِّ وقت.

هذه التغيُّراتُ كلُّها أسهمت في شعور الإنسان الغربيّ في المجتمعاتِ الليبيراليّة الحديثة بأنَّ كلَّ شيءٍ قابلٌ للتغيير، وبالإمكان البدءُ من جديد في أيّ وقت، بل أنّ من الواجبِ أن يُعيدَ الإنسانُ النّظرَ في نفسِه وحياتِه وعلاقاتِه وعملِه، ويتطلَّعَ دائما إلى ما هو أفضلُ أو أكثر عائدا أو أقربُ إلى تحقيق رضاه و"شغفِه" وطموحاتِه.

لم تَعدُ هذه القُدرةُ على إعادة اختراعِ الذّات أو صعودِ الطّبَقات أو تجاوز حدودِ الذّات أمرا استثنائيّاً أو أمراً يُحقِّقُه النُّدرةُ المتميِّزون من النّاس، بل يُروَّجُ لهذه القدرة باعتبارِها الوضعَ الطبيعيّ وما ينبغي أن يكونَ عليهِ كلُّ إنسان.

زَمَنٌ كهذا مُرهِقٌ بالفِعل، لمن يُجارونَه ولمن لا يستطيعونَ مجاراتَه على السّواء. مع أنّ إنسانَ هذا الزّمَن يعيشُ بالفعل في ظروفٍ ممتازة مُقارَنة بالبَشَر الذين سبقوه، إلا أنّ من المشكوكِ فيه أنّه أكثرُ سعادة. إنسانُ هذا العصر يعيشُ أطولَ ممّن سبقوه، ولا يُعاني أوبئة تفتكُ بالملايين، ويجدُ علاجاتٍ لكثيرٍ من أمراضِه، وحصولُه على الماء النّظيف والطّعام الكافي أفضلُ بكثير ممّن سبقوه، وتتوفَّر له أسبابُ رفاهية لم يحلم بها من قبلَه، لكنّه يُعاني دائما ضغطا مُستمِرّا وشُعورا غامِراً بالفوت وإحساساً مُستمِرّاً بأنّ ثمّة ما عليه أن يفعلَه ليُصبحَ أفضلَ ولتُصبحَ حياتُه أكمَل.

النّزعات اليمينيّة تؤكِّدُ دائما رابِطة الدم والبيولوجيا مثل العائلة والعرقيّة، كما أنّها ذاتُ نزعة قوميّة مُحافِظة، باعتبارِ أنّ القوميّة مخزونٌ ثقافيّ واجتماعيّ وتاريخيّ وجغرافيّ لا يجوزُ التفريطُ فيه
النّزعات اليمينيّة تؤكِّدُ دائما رابِطة الدم والبيولوجيا مثل العائلة والعرقيّة، كما أنّها ذاتُ نزعة قوميّة مُحافِظة، باعتبارِ أنّ القوميّة مخزونٌ ثقافيّ واجتماعيّ وتاريخيّ وجغرافيّ لا يجوزُ التفريطُ فيه

هل من المُستغرَب أن يجدَ إنسانُ هذا الزّمن بعضَ الإغراء في تنظيمٍ اجتماعيّ مختلِف، يُصبِح فيه تجاوزُ ذاتِه وترقيةُ مكانتِه الاجتماعيّة ميزةً استثنائيّة، لا أمراً مُتوقَّعاً منه بطبيعة الحال يدفعُه إليه كلُّ ما حولَه من إيديولوجيا وسوق وإعلام؟ من المؤكَّدِ أنْ لا أحدَ يطمحُ إلى استعادة العبوديّة أو الامتثال الأعمى لأوامر ملك أو نبيل، لكنّ تنظيما اجتماعيّا أقلَّ ضغطاً وأقلّ مطالَبةً للإنسان أن يُعيدَ النّظرَ في كلّ شيء وأن يُعيدَ اختراعَ كلِّ شيء، قد ينطوي على إغراءٍ ما.

على الأقلّ، هنالك مساحة أمان أو ما يُسمّى بـ (comfort zone) لا تطالُها ضغوط إعادةِ اختراعِ الذّات، فهنالك العائلة التي ينتمي إليها الفرد وتُشكِّلُ بالنّسبةِ له أمرا مُسلَّماً به وقيمة يتمتَّعُ بها ويُحافظُ عليها، وهنالك الولاء العامّ لأسرةٍ تمثِّلُ إرثا اجتماعيّاً سياسيّاً، فولاءُ أهل الشّمال لآل ستارك مثَلا ليس مجرَّدَ ولاء لعائلة، بل هو ولاء لتقليد ومعنى، ولاءٌ لما يعنيه الشّمال سياسيّا واجتماعيّا وجغرافيّا وتاريخيّا.  هنالك كذلك، كما سبق القول، طبقة ينتمي إليها المرء، ويمكنُ له أنْ يظلَّ جزءا منها بلا إشكال ولا ضغوط إذا لم تكن لديه رغبة فرديّةٌ عارِمة في الخروجِ عنها. هذه كلّها تمثِّلُ أسُساً لاجتماعٍ مختلِف، قد يكون مُغرِيا لإنسانِ الزّمن الحديث، ولو بشكلٍ لاواعٍ.

ولو راقبنا النّزعات المعادية لليبيراليّة في الغرب، والتي كانَ فوز ترمب برئاسة الولايات المتّحدة أهمَّ تجلّياتِها، لوجدنا أنّ هذه النّزعات تعكسُ بعضَ العناصر القريبة ممّا ذكرنا، فالنّزعات اليمينيّة تؤكِّدُ دائما على رابِطة الدم والبيولوجيا مثل العائلة والعرقيّة، كما أنّها ذاتُ نزعة قوميّة مُحافِظة، باعتبارِ أنّ القوميّة مخزونٌ ثقافيّ واجتماعيّ وتاريخيّ وجغرافيّ لا يجوزُ التفريطُ فيه. بتعبير الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، هؤلاء غربيّون سئموا من أن يخبرَهم أساتذةُ الجامعات بما عليهم فعلُه او عدمُ فعلِه، ويمكنُ أن نضيفَ لذلك أنّهم سئموا من أن يُخبرَهم الإعلام والأكاديميا والدعاية وكلُّ ما حولَهم بما عليهم أن يُعيدوا النّظرَ فيه أو بما عليهم أن يُعيدوا اختراعَه.

لعبة العروش و"المرأة القويّة"
نجح مسلسل لعبة العروش، من غيرِ تخطيطٍ واعٍ من القائمينَ عليه على الأغلب، ومن غير استعدادٍ واعٍ لدى جمهورِه الغربيّ على الأغلب، في أن يخلقَ صورة مُثيرةً ومُلتبِسة للمرأة. لو شاهدَتْ امرأة ذات نزوعٍ نسويّ هذا المسلسل، فستجدُ كثيرا ممّا يُعارضُ معتقداتِها، بل ربّما تجدُ أنّ جزءا كبيراً من صورة المرأة فيه مثيرٌ للاشمئزاز. النِّساء في العمل يُزَوَّجنَ لأسبابٍ سياسيّة بغير رضاهنّ، ولا يُعامَلن من أزواجهنّ برقيٍّ أو احترام، وهناك استخدامٌ واعٍ للجنس والزّواج باعتبارِهما رصيدا سياسيّا يُمكنُ للمرأة استغلالُه، سواءٌ للنجاة من الهلاك كما كانت سيرسي لانيستر تستعدّ في حال انتصار جيش ستانيس باراثيون، أو كما تُخطّطُ هي ودينيريس تارغيريان لاستخدامِ الزّواجِ في عقدِ تحالفات سياسيّة عسكريّة.

لكن في المُقابِل، هناكَ صورةُ المرأة القويّة عارمة الشّخصيّة ووافرة الحكمة وبالغة الدّهاء، القادرة على قيادة قبيلة أو جيش أو حتّى مملكة، والقادرة على نيل ولاء آلافٍ مؤلَّفةٍ من الرّجال يمتثلون لأمرِها وتُلهمُهم شخصيَّتُها ويطلبونَ رضاها. لم يُقدِّم العمل "المرأة القويّة" في صورةٍ واحدة، بل في عدّة صور، وأكثرُها صورٌ تختلفُ عمّا تفهمُه كثير من نساء اليوم عن المرأة القويّة.

undefined

هنالك دينيريس تارغيريان التي يكمنُ جزءٌ كبيرٌ من قوَّتِها وما وصلتْ إليه في قدرتِها على الترويض النّفسيّ والجنسيّ لزعيم الدوثراكي "كال دروغو"، فضلا عن أنّ كونَها من سلالة تارغيريان أكسبَها مناعة طبيعيّة ضدّ النّار، أي أنّ جانبا كبيرا من تميُّزِ هذه المرأة يعودُ لتكوينٍ بيولوجيّ، وهي فكرةٌ تزعجُ كثيرا الـ "بِنائيّين" أو ال "constructionists" الذين يعزونَ العوائقَ التي تُواجِهُ المرأة في المجتمع، والميزات التي تتمتّعُ بها كذلك، إلى أسباب اجتماعيّة مُصطَنَعة أو متواضَعٍ عليها، لا أسباب تكوينيّة بيولوجيّة أو سيكولوجيّة. يُضافُ لذلك أن دينيريس لا تجدُ حرَجا في أن تكونَ جاذبيّتُها النفس-جنسيّة جزءا من لعبةِ السُّلطةِ التي تلعبُها، فهي تُعزّزُ دائما صورتَها التي تمزجُ في عيون الرِّجال بين الأمّ -أمّ التنانين وأمّ العبيد المُحرّرين- والحبيبة، وهذا مزيجٌ شديد الإغراء والأثر. بالتّالي فدينيريس ليست فقط مُتصالِحةً مع أنوثتِها بالمعنى الليبيدي أو الإغرائيّ أو حتّى بمعنى دخول انجذاباتِها الشّخصيّة عاملا في سياستِها -مثلَ ميلِها المُتزايد إلى جون سنو- بل هي تستفيدُ منها وتستغلُّها.

هنالك سيرسي لانيستر كذلك، المُستعدّة -نظريّا- لتقديمِ جسدِها هديّة ل "يورون غريجوي" مكافأة على دورِه في الحرب. بطبيعة الحال، نفترضُ أنّ سيرسي تلعبُ لعبة ما مع يورون وتستغلُّه دون أن تنوي تقديم نفسِها هديّة له في النّهاية، لكنّ هذا الأمرَ مقبولٌ وواردٌ نظريّا على الأقلّ. تشتركُ جميعُ النّساءِ البارزاتِ في العمل في فكرة أن نَسَبَهنّ وجسَدَهُنّ جزءٌ مشروعٌ من اللعبة، أو (fair game) وبالتّالي فهنَّ يتوقّعنَ أن تقومَ عائلاتهنّ باستغلالِه، ويتقبّلنَ تماماً أن يقمنَ هنّ باستغلالِه.

بالإضافة لذلك، هنالك الشّكلُ المعروف لدورِ المرأة في السياسة والسّلطة في العصورِ ما قبل الحديثة، ألا وهو دورُ التأثير في الزّوج أو الابن. هذا الدّور لعبتْه سيرسي لانيستر ومارجوري تايريل وأولينا تايريل وكيتلين ستارك. هذا الدّورُ كان ضخما جدّا في زمنٍ لم تكن فيه مؤسّساتٌ رقابية وبرلمان ودستورٌ يُحدّدُ دورَ رأسِ السُّلطة وصلاحيّاتِه، وبالإضافة لضخامةِ هذا الدّور تاريخيّا بالفعل، وما لعبتْه نساءٌ قويّات في حياة أزواجِهنّ وأبنائهنّ من أدوارٍ غيّرت مجرى التّاريخ، فهُناكُ أساطيرُ نُسجَت حول ما لعبتْه بعضُ النّساء في حياةِ هؤلاء القادة، وهذا مؤشِّرٌ على عِظَمِ هذا الأثر.

لكنّ هذا الدّورَ، على ضخامتِه، يُشعرُ كثيراً من النِّساء في زمنِنا بالنُّقصان، فمقولة "وراءَ كلِّ رجلٍ عظيمٍ امرأة" تحوّلت من عبارةِ ثناء للمرأة إلى عبارةٍ توحي بالانتقاص، وتعرّضت لتعديلاتٍ حوّلتْها إلى "بجانب كلّ رجلٍ عظيمٍ امرأة"، بل وصلَ الأمر أحيانا إلى الامتعاضِ من الفكرةِ برمَّتِها.

لكن مع ذلك، يستحوذُ لعبةُ العروش على إعجابِ كثيرٍ من النّساء. يُمكنُ بالتأكيد أنْ يكونَ ذلكَ عائداً إلى مُشاهدةِ العمَل باعتبارِها عملا تاريخيّا سحيقَ البُعدِ عن الواقعِ الحالي، وبالتالي، وكما قُلنا في التدوينة السّابقة، ألّا تشعر امرأةٌ تُشاهدُه بالرّغبة في الحكم أخلاقيّا على دورِ المرأة فيه ومدى إعجابِها أو عدم إعجابِها بطريقةِ تصويرِه، لكنّ الدراما تُعلِّمُنا دائما أنّ صناعة مسافةٍ تاريخيّة بين المُشاهدِ والعملِ يُساهمُ في إزاحة تحفُّظاتِه الواعية، ويُطلقُ العنان لرغائبِه ويجعلُه أكثرَ تصالُحا مع ما كان سيرفضُه لو عُرضَ عليه في سياقٍ مُعاصِر. مشهدُ النّساء القويّات، دينيريس تارغيريان وأولينا تايريل ويارا غريجوي وميساندي، وهُنّ يُخطّطنَ للحربِ الكبرى، مشهدٌ شديدُ الإغواء، ويمكنُ القول إنّ العملَ قدّم صورة قبل-ليبيراليّة للمرأة تنطوي على إغراء ما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.