شعار قسم مدونات

عندما غنّى إقبال أمام القافلة

blogs - صحراء
ظلّت حياة الأسفار في البيداء، ورحلة الشتاء والصيف التي تجوب الصحراء، تحفر في ذاكرة الشاعر العربيّ، ترافقه بها بواعث الأشواق والأتراح، فينسج من لواعجها شعراً وحداء يسكن به لوعة الاشتياق، ويستعين بها على طوي المفازات ووعثاء الطريق، يصطحبُ في خياله تصاوير الأطلال، ولا ينسى ذكر الصحاب والرفاق، حتّى يبلغ بقافلته الديار والمقام، بعد طول مكابدة للأخطار والأهوال.

لقد كان إقبال ينسج أشعاره على منوال هذه المعاني، لكن بطريقته الرمزيّة المعروفة، لقد كان ينسج من عشقه زماماً للراحلة، ويرسل من وميض عينه مطيّة السفر، ويطلق من سنا شعره سراجاً ينير الظلام.
لقد كان إقبال ينتمي إلى تلك القافلة التي استهلّتْ أسفارها منذ فجر الخليقة، وبدأت مع مسيرة الكواكب والأفلاك سعيها، لكنها قافلة لا كالقوافل، وغناؤها لا ككلّ الغناء، وحاديها لا كحادي العيس.

إنها قافلة تجمع القلوب والأرواح، تسير في طريق الحياة، وتستهدي بنور من الفكرة الخالدة، يحدوها حنين الإيمان والحبّ، وهي تشقّ صحراء الفتن والأشباح، نحو سعادة أبديّة سرمدية، تنزهت عن كل حواجز الزمان والمكان، كان إقبال يحدو لقافلة الأيام ويرسل صدى عزفه مع الأثير لقلوب تتفتّت كالصخرة الصماء، وكأنما غناؤه وابل المزن الذي ينبت الزهر في جوفها القاحل.. وقلوب كأنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأً، فلا تأهبه لغنائه ولا يحدوها جميل العزف للحوق بقافلته.. فيقول:
قم فإنّ الشمس همّت بالمسير، وتزوّد قبل وعثاء السفر
وهب الروح التي يلقى بها… طرفا يومك طاقات أخر
هكذا يفعل فينا مثلما. يفعل البرعم في قلب الحجر
وجميل القول في رقّته. ماله في أذن الحمقى أثر

يأسى إقبال لسائر نأت عنه قافلة الصحاب، وتركته وحيداً يكابد الحرقة والأشواق بعد أن عوّقه الركب وبرد منه الشوق وتثاقلت منه الخطى

 

لكن إقبال يحذّر الرفقاء والصحب من التعثر بجراح الطريق، وشواغل الزاد والمطية، عن لذّة الوصل والسبق، وبلوغ المنزل والحيّ، فإنّ لحظات من التغافل والتعوق قد تبعد الركب عنك فراسخاً، حتّى تختفي عن عيناك آثاره، فيصعب عليك اللحوق بها.  يقول إقبال:
لحظة يا صاحبي إِن تغفل. ألف ميل زاد بعد المنزل
رام نقش الشوك حينًا رجل. فاختفى عن ناظريه المحمل
ويقول:
بَلَّغَ السعيُ الرفاقَ المنزلا أنزلوا ليلى وحطّوا المحملا
وبقيت اليوم قيساً مبلساً في الصحاري عاجزاً مستيئساً

لكن إقبال يُصبّر الرفقاء دائماً على لغوب الجدّ والسير، وظمأ هواجر الحب، وقرّ شتاء الصرم، فهو رائد هذه الرحلة الخبير، وقائدها البصير بما تخفيه من أهوال وصعاب، لكنها بالرغم من أهولها وما تضفيه من أحزان وآلام… مليئة بالسلوى والأشجان التي تمحو كلّ آثار العناء. فيقول:
دوّى النداء على القوافل معلناً بدءَ المسير فقم مع الركبان
فالدرب يا هذا المسافر صعبة وطويلة وكثيرة الأشجان
يبدي إقبال إعجابه بذلك الرفيق الذي أدمت أقدامه الجراح، وأضناه طول الطريق الوعرة، لكنه بالرغم من ذلك لا يزال يحث الخطى مسرعاً، وقلبه ينبض بالإصرار، وعيناه ظاعنتان بالشوق والحنان، قد تناسى بسمو غايته وقع آلام الجراح. فيقول:
بالرغم من طول الطريق وعسره عيناك ظاعنة وقلبك سارٍ

كما يأسى إقبال لسائر نأت عنه قافلة الصحاب، وتركته وحيداً يكابد الحرقة والأشواق بعد أن عوّقه الركب وبرد منه الشوق وتثاقلت منه الخطى، وغدا كالمحزون على فراق أحبّته، يسير وحيداً وينتظر طويلاً لعلَّ قافلة تحتمله من جديد، إلى حيث فارق الخلّان والصحب… فيقول:
قد خَلَّفَتْهُ على ربى الصحراء قافلة الرفاق
كهشيم يصطلي بالجمر في نصف احتراق
يرنو إلى البيداء والمدن الرحيبة والفضاء
فعسى تمرّ قوافل أخرى تعيد له الرجاء

يعطف إقبال على شبيبة صادقة، لكنهم ركبوا مع القوافل التائهة، تعبث في أشرعتهم ريح الضياع، ولم يكن ذا من نقص في همّة ركّابها، لكنّها غياب الربان الحاذق والحادي الموهوب.
يعطف إقبال على شبيبة صادقة، لكنهم ركبوا مع القوافل التائهة، تعبث في أشرعتهم ريح الضياع، ولم يكن ذا من نقص في همّة ركّابها، لكنّها غياب الربان الحاذق والحادي الموهوب.

إقبال لا يقبلُ عن سبيله بديلاً، ولو بقي لآخر الدهر يمضي وحيداً في دربه، فهو ماضٍ في حث الخطى نحو غايته لا تثنيه الخطوب والأحوال، ويستعين بزفرات الشوق والحنين، ليحرق به ألم المعاناة والأحزان، فيقول:
ألا يا حبذا تلك الطريق تطول ولا يؤانسها الرفيق
لها الزفرات فافتح منك قلباً لتحرق فيه حزناً لا تطيق

لا يفتأ إقبال يصف القوافل التي يصادفها في طريقه، ومنها ما تشتتْ بها السبل، وأُنهك فيها الركب، وأضاع ربانها السبيل، ولم يعد في ألحان مغنيها إلا طنين نشاز، لا تهيج منه الأرواح، ولا تشتد به عزائم الرفاق، ولا يقدح من بصيصه سراجاً ينير منه ظلمة الطريق، حتى تركه الرفاق إلى قافلة أخرى، ومنهم من بقي يكتم الجراح ويصابر، فيقول:
البعض قد ترك الركاب لغيرها والبعض يكتم جرحه ويعاني
لو أتقن الحادي مقاماً واحداً ما حادوا عنه لحادٍ ثاني

كذلك يعطف إقبال على شبيبة صادقة، لكنهم ركبوا مع القوافل التائهة، تعبث في أشرعتهم ريح الضياع، ولم يكن ذا من نقص في همّة ركّابها، لكنّها غياب الربان الحاذق والحادي الموهوب. فيقول:
ركابهم بالرغم من نشاطها ينقصها اليوم دليل ماهر
ألحاظ موهوب وعين ثاقبة وسحر ألفاظ وعين لاهبة
كلّ الذي يملكه من عدّة قائد هذه القافلات الذاهبة

لا يزال إقبال يدقّ جرس شعره المدوّي في مسامع العاشقين، ليعلن عن ديمومة مسير القافلة، يستلهم معنى الترحال على الدوام، وينصب من عصا التسيار التي لم تفارق عاتقه.

لا يفتر (إقبال) من تأجيج روح الحماسة في همّة الرفقاء، ويحرص على بقاء جذوة اللوعة مستعرة في عروقهم، حتّى ينفضوا عن كاهلهم النصب والتعب، وينفوا عن عيونهم رقاد الكسل، يصلون السير سرمداً، ويسرجون العزم في عيونهم مصابيح هدىً، فيقول:
يبلغ المنزل سارٍ لا ينام مسرجٌ عين هِزبر في الظلام
ويقول:
هذا الزمان ليله شديد وأنت عن قافلتي بعيد
لهيب زفرتي هو المصباح لك يبدّد الليل ويقشع الحلك

لكن إقبال الذي يحدو لقافلة الإنسانيّة ويوقد منارة العرفان في شرايين التائهين ليسيروا في طريق فكرته الأبدية، ويصخوا السمع لألحان شعره القدسية، لا يدّعي لنفسه إمامٌة هذه الرحلة، فما حدوه وغناؤه إلا جذوة وقبس من إمام قافلته المتصلة من أزل يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)؟ الباقية إلى أبدية يوم (ولدينا مزيد).
إنه بعض شعاع رماه شيخه (جلال الدين الرومي) سهماً في سويداء فؤاده، إنه لحن المثنوي يشده إليه كأنّه مغنطيس يجذب القلوب قبل الآذان، وتصطلي منه المهج قبل الأجساد، فهداه هذا العزف شطر قافلة العشّاق، وصاغ من ذاته الحائرة على دروب تيه الأفكار، المبعثرة على ضفاف سراب الأوهام، ذاتاً جديدة كان يوم ميلادها في ذلك اليوم الذي التحقت به في قافلة الخلود. فينشد متأثّراً بشيخه:

أذنَ الركب لهذا المنشدِ أطرب الناشدُ صوت المنشدِ
سال في القلب مسيل المطر ينبت الروح بسهب مقفر
رنَّ في نفسي رنين الجرس صاح في أُذني فقيدٌ مبلس
طوت البيداء عنه السابلة وهداه الصوت شطر القافلة
سبق القلب إليه الأذنا كبلال لصلاة أذنا
دار قلبي شطر هذا المطربِ دورة الإبرة شطر القطب
عدت يا عيدي إلينا مرحبا نعم ما روَّحت يا ريح الصبا

لا يزال إقبال يدقّ جرس شعره المدوّي في مسامع العاشقين، ليعلن عن ديمومة مسير القافلة، يستلهم معنى الترحال على الدوام، وينصب من عصا التسيار التي لم تفارق عاتقه آية يسترشد بها الشاردون يبحث عن يداً بيضاء في الصحاب ليناولها مشعل أفكاره المتقدة، ويهب شعره لمن يعزفه لحناً في مسامع الأحرار، ليتابعوا خلفه المسيرة، في درب لا تفصل بين الرفقاء حواجز الموت والحياة.. حواجز القرب والبعد، ثم تمضي بهم إلى مستقر الوصل هناك.. هناك حيث لا هناك هناك..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.