شعار قسم مدونات

معجزة إنجاب عشرة من الأولاد

blogs طفل متمسك بيد أمه
حين سألت ماما عن كيف يمكن للملح أن يكون مقداره مناسبا حين تضعه للطعام، أجابت بأن يديها ميزان بعد سنوات من الملح الناقص والملح الزائد صارت يدي ميزان بعد وقت عرفت أن عينيها ميزان ترى معارفي فتقول هذا خبيث وهذا طيب، أجادلها في أنها لا ينبغي أن تحكم على الناس؛ ثم يكون ما قالت تماما.. بمرور الوقت عرفت أن الميزان حاضر في يديها وعينها وقلبها ويغيب عن عيني ويغيب عن قلبي، أو أن هواي يطغى على ميزاني فأضل؛ لكن مع ماما فهي الميزان دوما وأبدا. 
تمر ماما بيدها على الأشياء فتحيلها من رمادية إلى ألوان زاهية، كل الأشياء في غيابها لها طعم الصدأ، يغرق المنزل في لمحة حزن لا تزيلها محاولات تقليد خطاها من صنع للطعام أو تنظيف أو غيره، ما الروح التي قذفها الله في الأمهات حتى يموت البيت حين تغيب. كيف تعرف الجمادات أن ماما سافرت فتعود الملابس لتتناثر، وأطباق الطعام تبقى في مكانها لوقت لا بأس به، وتعود الفوضى من جديد.
حين تقرأ ماما هذا الكلام ستضحك وتقول أنت المهملة، وسأضحك لأنها تقول التعليقات التي بت أحفظها دون تغيير، أحاول جاهدة أن أبقي المنزل كما كان حين حضورها، فلا أفلح، دائما هناك شيء ناقص.

لم أشعر بحجم ما أنجزه والديْ حتى كبرت وصرت ألتفت فأجد صديقتي تعجز عن تحمل طفل واحد، وتتوقف حياتها عليه، فأسأل نفسي كيف فعلتها ماما؟

أقول لماما إنك لا تعيشين لأجلك! فتقول أخذت زماني فهل سآخذ زمن غيري! لكن ما أعرفه جيدا أن ماما لم تأخذ زمانها كما تقول؛ إنما أفنته لأجلنا بحب وصبر ولا أعلم سيدة فعلت ما فعلته ماما.. كيف تخلت ماما عن آمالها العديدة لتربي عشرة أطفال! تكرر مع كل واحد منهم النصائح وتعالج وتعلم وتدرس وتطعم وتفهم.. من أين لها كل هذا الصبر والحب! 

أنا أشعر بالفزع لفكرة جلب طفل للحياة، ثم ألتفت فأجدنا عشرة إخوة على أتم حال وخلق بين طبيب ومهندس وصحفي وصاحب علم شرعي، هنا عشرة كانوا أطفالا ثم صاروا رجالا وسيدات كلهن يحفظن القرآن، وكل واحد من العشرة صار له بيت وأطفال يعلمهم القرآن ويسقيهم مما شرب..
كيف فعلتها ماما؟ كيف تفانى بابا ليصنع كل هذا؟ لم يجلب بابا وماما أحد لتربينا ولا لعون ماما، كل شيء فعلوه بأنفسهم، حفظت القرآن في البيت وأنهيته مع ماما وبابا قبل أن يحدث ذلك في الصف، كأنه الأمس، في صالون منزلنا الصغير يجلس بابا ويقرأ وأقرأ خلفه في يوم الجمعة، هناك ماما تقف لتحني ظهرها في غسل الصحون وتقول اقرأي وأنا أسمعك، وأقرأ وتسمعني.

لم يكن ثمة معين لهم سوى الله وهمتهم التي رفعتنا من الأرض للسماء، ماما تعد الطعام وتغسل الملابس وتنظف المنزل حين يذهب بابا بنا للمدرسة، ومن ثم يذهب لعمله ومن ثم يعود لجلبنا واحدا واحدا من المدرسة، لا أزال أذكر حديثه الطويل معي في السيارة وفي الطريق من وإلى المدرسة، كنا نفعل كل شيء، نقرأ مجلات بصوت مرتفعة ليسمعها بابا، بينما هو يقود السيارة ويقول بابا شعرا ونستمع للراديو ونحكي، كيف كان يومنا في المدرسة، وما هي خططنا للمستقبل، الوقت الذي كان مملا لمعظم الآباء كان أبي يجيد استغلاله.

كبرت يا أبي وكبر خوفي أن ألتفت فجأة فلا أجدك، فأشعر حينها أن ظهري للهواء بلا سند حقيقي، كبرت يا بابا وفرقت بيني وبينك بلاد وساعات سفر، وضاقت مساحات الحديث إلا من وقت نسرقه في الهاتف.
كبرت يا أبي وكبر خوفي أن ألتفت فجأة فلا أجدك، فأشعر حينها أن ظهري للهواء بلا سند حقيقي، كبرت يا بابا وفرقت بيني وبينك بلاد وساعات سفر، وضاقت مساحات الحديث إلا من وقت نسرقه في الهاتف.
 

حين نعود تقوم ماما بوظيفتها الجديدة، تدرسنا وتساعدنا في الواجبات اليومية حتى نصل إلى سن لا نحتاج المساعدة فيها، ويذهب بابا لعمله من جديد، وفي نهاية الأسبوع هناك الحديقة التي نذهب إليها ونصر ونزعج بابا كي يأخذنا إليها، لم أكن وقتها أفهم معنى كلمته "أريد أن أجلس في يوم الإجازة في المنزل وتجلسون حولي فقط"، فهمت كلمته الأمس في يوم إجازتي، حيث كانت أمنيتي الوحيدة هيا المكوث في المنزل ومشاهدة التلفاز لا أكثر ولا أٌقل، لعدد لا نهائي من السنوات فعلت ماما وبابا نفس اليوميات لعشرة من الأبناء، أي صبر هذا وأي جلد يدفع إنسانا لتحمل كل هذا سوى الحب واحتساب الثواب عند الله. 

لم أكن أشعر بحجم ما أنجزه ماما وبابا حتى كبرت وصرت ألتفت فأجد صديقتي تعجز عن تحمل طفل واحد، وتعجز عن إسكاته، وتتوقف حياتها عليه، فأسأل نفسي كيف فعلتها ماما؟ كيف خاضت الحياة بعشرة أرواح معلقة في عنقها بكل صبر وحب، حينها كبرت وكبرت مخاوفي وكبرت آمالي، وكبر معي كل شيء، ولم أعد الصبية المدللة التي لا تكترث لشيء. كبرت وكبر معي خوفي في كل التفاتة مني لهذا العالم المجنون، أأسأل نفسي كيف يشعر أحدهم بالأمان لجلب طفل، بل في حالتنا عشرة أطفال، كنت وما زلت تملك من الإيمان أكثر مما أملك كي تجيب عن سؤال كهذا يا بابا، لكنني لست مثلك، أنا لا أجد الإجابة، لا أجد سوى الخوف وهذا العالم المجنون. 

كنت أقول لنفسي بعد عمر العاشرة، لن أبكي حين تغيب ماما وبابا، لكن لم يحدث، وفي العشرين لم يحدث أيضا، وما زلت أبكي

كبرت يا بابا، وأدركت أن العام ليس مقسم لترم أول وإجازة وترم ثان، بل هو كد دائم، كبرت وعلمت أن اليوم العاصف والشديد المطر أو الحر الذي تسيح معه الأكباد ليس بإجازة، وأن أيام العمل الرسمية لا تعرف الإنسانية، وأن الغياب عن العمل ليس مثل الغياب عن المدرسة أو الجامعة في المدرسة، هناك عدد لا نهائي من الأعذار يمكن تقديمها، أما في العمل فهناك رسالة تم خصم نص يوم خلف كل غياب أو تقصير. 

كبرت يا بابا، وعرفت أن الغياب ساعات طويلة عن المنزل كان لتوفير ملبس شتوي وآخر صيفي وآخر للعيد وثالث ورابع وعاشر لكل مناسبة، وأن العيدية التي توضع في يدي كل عيد هي نتاج غياب الساعات الطويلة عن المنزل في نفس اليوم الذي غضبت منك لأنك تأخرت في العمل، فلم يعد بإمكاني الذهاب للحديقة، كان هذا لجلب رزق يوم آخر أو للإحسان في عملك تحريا للرزق الحلال. كبرت وكبر خوفي أن ألتفت فجأة فلا أجدك، فأشعر حينها أن ظهري للهواء بلا سند حقيقي، كبرت يا بابا وفرقت بيني وبينك بلاد وساعات سفر، وضاقت مساحات الحديث إلا من وقت نسرقه في الهاتف.

كبرت يا بابا، وواجهت العالم الذي كنت أحتمي خلفك كثيرا خوفا من مواجهته، وفهمت كل تلك النصائح التي لم أكن أعي لماذا تلقنها لي كل يوم في رحلتنا الطويلة في السيارة من البيت للمدرسة، كل يوم كنت تقولها بصبر وحب، وكنت أسمعها ببلاهة ولا أدرك كثيرا منها، اليوم صرت أعرف قيمتها ومعناها. 

كبرت وعرفت أن يذهب المال الذي تجنيه ولماذا لا يمكن أن نجلب به كله الحلوى التي أريدها، وعرفت أن الكهرباء لا تعمل من تلقاء نفسها بل من تسديد فواتيرها، وعلمت أن جلب الخبز في نهاية كل يوم أمر ضروري، لأن الخبز لا يتكاثر ذاتيا، ونسيانه في نهاية كل يوم يتسبب في البقاء دون عشاء. 

كنت أقول لنفسي بعد عمر العاشرة، لن أبكي حين تغيب ماما وبابا، لكن لم يحدث هذا، فقلت بعد العشرين، لكن لم يحدث هذا أيضا، وما زلت أجدني أبكي حين يغيب طيفكما، ما زلت بكل هذه السنوات التي أحملها على كتفي طفلة تبكي غياب والديها وتركض نحوهما بضحك بعد كل غياب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.