شعار قسم مدونات

التربية والسخول الميتة

مدونات - أب وابنته
"من يقتني العنز، سيموت له كثير من السخول" حكمة كان يتوارثها المربّون في مجتمعاتنا على شكل مَثَلٍ من الأمثال الشعبية التي يتداولونها، وبالطبع فلم يكونوا يحكونها باللغة الفصحى كما كتبتها هنا، بل كانوا يقولون: "اللي بْيِقْنى عنز، ياما تموت له سخول".

الدرس الذي ينقله هذا المثل أو هذه الحكمة مستفادٌ من تجربة مُرَبّي الأغنام، إذ علَّمتهم تجاربهم أن الذي يقتني هذه الأغنام فتلدُ عنده لا يمكن إلا وأن يموت بعض أولادها فلا يُستفاد منه، وهي سنَّةٌ وقوانين لا تتبدل، وعليه فالواجب أن يدرك المرء ذلك، ولا يمتنع من العمل في تربية الأغنام بسبب هذه الخسائر.
وهكذا الأمر في بقية التجارات والأعمال، فلا يوجد مشروع لا يواجه العثرات، وهي حقيقة يساعد إدراكها على عدم الاستسلام لهذ العثرات. وهذا الدرس ينسحب كذلك على الحياة كلها، فالعثرات والأخطاء موجودة فيها، والاستسلام عند مواجهتها هو عين الفشل.

لقد تعلمتُ الدرس المستفاد من هذا المثل على يد موجهي ومربّيَّ الأول، والدي رحمه الله، وكان هذا الدرس الذي علمني أبي إياه مساعدًا لي في مسيرة حياتي، فلم أترك العثرات والإخفاقات تؤثر عليّ سلبًا، كما أنه كان من آثار تعليمه إياي ذلك مساعدتي على تعزيز ثقتي بنفسي، وهو درس يغيب للأسف عن كثير من الآباء والمربين، إذ يكلف الأب ابنه بالقيام بعمل فيخطئ فيه، فيبدأ بلومه وتقريعه لأجل ذلك، بل ويصفه بأنه فاشل لا يصلح لشيء ويحمله مسؤولية ذلك الفشل كله، وينعكس ذلك التقريع سلبًا على مسيرة حياة الابن، إذ يصبح خائفًا من فعل أي شيء، أو اتخاذ أي قرار، لئلا يناله اللوم والعتاب إن فشل فيه، وبذلك يفقد القدرة على اكتساب الخبرة، ويفقد ثقته بنفسه.

كان والدي -رحمه الله- إذا وجدني متضايقًا نتيجة إخفاق في العمل أو خسارة أصبنا بها، فيقول لي: يا بنُيَّ، "اللي بْيِقْنى عنز، ياما تموت له سخول"، وقد كانت هذه العبارة تعزز ثقتي بنفسي.

لقد استفدت من هذا الدرس في مسيرة حياتي كلها، وحتى في مجال العمل الحركي والتنظيمي والمؤسسي، فقد استفدت من هذا الدرس الذي يمكن أن نعبر عنه بأن "الذي لا يعمل هو فقط من لا يخطئ". إحدى المشاكل التي تعيق تطوير العمل الحركي في كثير من المواقع، وتعيق إنشاء أجيال قيادية تستفيد من خبرة السابقين لهم تتمثل في أن المسؤولين لا يثقون بمن هم تحت قيادتهم لتكليفهم بالقيام بالأعمال التي يلزمهم التدرّب على القيام بها، ثم إذا كلفوهم بذلك وأخفقوا لم يعطوهم فرصة أخرى، ولم يعززوا ثقتهم بأنفسهم، بل عملوا على تحطيم نفسياتهم، فتشعرهم وكأنهم كانوا ينتظرون أن يخطئ ذلك المكلف حتى يجلدوه بسوط تقريعهم، ويثبتوا أنه لا يستطيع النجاح في أداء العمل الذي يقومون هم به.

وكان من الآثار السلبية هذا المنهج الذي يترصد فيه القادة أخطاء جنودهم وعناصرهم، ولا يتفهمون أن احتمالية الإخفاق في تنفيذ أي عمل واردة فقدان هؤلاء العناصر الدافعية للمبادرة تخوّفًا من الوقوع في أخطاء يُلامون عليها رغم أن منها ما لا يكونون السبب المباشر في الإخفاق فيه، وعدم مبادرتهم لتحمل المسؤولية أو لطرح أفكار جديدة تساعد على تطوير العمل والأداء.

إنّ اختلاف أسلوب التربية بين مربٍّ يعزز ثقة من تحت قيادته بنفسه، ومربٍّ يهدم تلك الثقة، هو الذي يحدّد هل سيخرّج المربي قيادات ناجحة أم جنودًا لا يتقنون فنَّ القيادة ولا يجرؤون على تجربته. ولا أزال أذكر كيف كان والدي -رحمه الله- إذا وجدني متضايقًا نتيجة إخفاق في العمل أو خسارة أصبنا بها يبادر بتذكيري بهذا المثل، فيقول لي: يا بنُيَّ، "اللي بْيِقْنى عنز، ياما تموت له سخول"، وقد كانت هذه العبارة تعزز ثقتي بنفسي، وتوفر لي الدافع للاستمرار وعدم الاستسلام.

إذا كنا نرغب بإنشاء جيل مستعدٍّ للمبادرة وتحمّل المسؤولية مستفيدًا من خبرة الجيل الأكبر منه ومستندًا إليها مكمِّلًا للمسيرة التي بدأوها فنحن بحاجة إلى تعزيز هذه المفاهيم لدينا، فالآباء يحتاجونها مع أبنائهم، والمدرسون مع طلابهم، والعلماء مع تلاميذهم، والقادة الحركيون مع أتباعهم، وإلا فإننا سنترك الأجيال اللاحقة لتسلك طريقها مبتدئة من نقطة الصفر، مارَّةً بالعثرات التي وقعنا فيها دون توجيه أو إرشاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.