شعار قسم مدونات

عندما أجهضتني الحياة!

blogs امرأة
الكاتبة: أحسست بأنّ الحياة تُجهضني تِباعًا، لكن العكس كانت تُحييني مع كل فُقد (مواقع التواصل الاجتماعي)

لا نعرف قيمة ما نملك حتى نفقده، سمعتها كثيرًا لكن دونما تدبُّر في معانيها، لحظة لو نعكسها: "ستفقِد الشيء حينما تتلاشى قيمته"، لماذا هذه القسوة على أنفسنا، وهل نملك أغلى منها حتى نتجاهلها كل هذا العُمر؟ كم عُمرك الآن! هل أنت راضٍ عن معاملتك لها، هل تجلدُها دونما شفقة؟ هل أجهضتها في زحمة السنين لأجل أن يُحبَّك العالم؟ هل صفعتها لأجل سعادة الآخرين؟ هل يستحقون كلّ هذه الإنسانية؟ كيف لك أن تمنح كلّ هذا وأنت أكبر فاقد له؟ نعم يا أصدقاء فاقِد الشيء يُعطيه ببذخ.

ستصل إلى مرحلة شديدة جدًا في الحياة، ستعيشها لا مهرب كأن تفقد عزيزًا على قلبِك وأنت في أمس الحاجة إليه، ستنضج فجأة، خاصة إذا كان الراحل أقرب البشر إليك، أقول هذا عن تجربة هجرت فيها الأنانية، نعم اخترت التفكير في كلّ من حولي، حينما مات أبي استيقظت، لم أُفكِّر في كيفية العيش دونه بل فكّرت في طريقة لتقبُّل الألم فلا أدري ما سيحدث في الغد، قد أكون أنا المغادرة التالية، أو أحد آخر من العائلة، من يومها وأنا في كابوس أعيش لأجل الموت لا لأجل الحياة.

هل يُعتبر وسواسًا يأخذني من الاستمتاع باللحظة؟ حقيقة لا أعرف، لقد تغيّرت أصبحت أعتمد على نفسي أكثر، أتفقّد أمي قبل أن ألجأ إلى الفراش، تعلّمت الدعاء لها، استشارتها، مُصارحتها من حين إلى آخر، تعلّمت التعايش مع الشوق لشخص لن يعُود من جديد، تعلّمت التأمل في عيون الآخرين استشعارًا لحزنهم لربما أستطيع التخفيف عنهم، حتى لا يعيشوا ألمهم لوحدهم كما عشته لوحدي، هكذا هي الحياة نسير فيها بخطواتٍ ثابتة أو مُتعرّجة، بطيئة أو سريعة نحو ثابت واحد وهو الموت. تمعّن داخلك برِفق، لا تتجاهل هشاشتك ستُدمِّرك يومًا، حاول أن تتعايش مع الآلام لكن لا تستسلم لها مهما كانت الظروف، مهما حدث ستبقى الحياة جميلة، أُنظر هنا وهناك لعلّ الزوايا الأخرى ملوّنة ستشرق الشمس منها.

عندما تُجهضك الحياة حاول أن تنبت من رمادك، لا تستسلم لأوجاع اليوم، ولا تغتر بسعادة اللحظة اعمل دائمًا فالفراغ قاتِل، اقرأ دائمًا فالجهل بشِع، حاول دائمًا فالفشل مدرسة

يحرمنا الله من أعز الناس لحكمة نجهلها، نعم ذاك قضاء لكنه في ذات الوقت دواء لأسقامٍ تأتي تِباعًا فالفقدان الأكبر كالترياق يمتص سموم الفُقد التالي، حلّقت روح جدّتي من 12 سنة مضت، تعوّدت النوم معها في ذات الغُرفة، أسمع لحكاياتها وكيف كانوا يعيشون أثناء الاستعمار، تحفظ أمثالاً كثيرة، تشرح لي معانيها بلا ملل، تُوقظني يوميًا لصلاة الفجر، تنزعج حينما لا أساعد أمي في شغل البيت، تصوم عن الكلام عِقابًا ثُمّ تحضنني قائلة: "لن أعيش 100 سنة لأنصحكم، فتعلموا الاعتماد على أنفسكم"، ثُمّ حدث أن ماتت: تلك التي امتلكت أقوى ذاكرة، أجمل قلب، كانت أرقى إنسانٍ عرفته، لم أبكِ حينها لست أعلم السبب، فقط فتحت الكتاب أقرأ وأقرأ هربًا من شيء أجهله لكنّه لم ولن يجهلنا، حدث أن طرق بابنا من 6 سنواتٍ مضت ليأخذ أبي من جديد لأُعيد أنا ذات التصرُّف بأن أفتح الكتاب وأقرأ دون ذرفٍ للدموع.

أحسست بأنّ الحياة تُجهضني تِباعًا، لكن العكس كانت تُحييني مع كل فُقد، اكتسبت مناعة ضدّ الحُزن تجمّلت بثوبِ القناعة، والرضا بقضاء الله وقدره، وأنّه مهما طالت الأعمار ستفنى، ستضعف الأجساد ستدفن أحبائك تِباعًا، ليأتي يومك أنت، ستُغادرهم لكن ذكراك ستبقى فاجعلها جميلة. نحن البشر محمّلون بالتناقض نُريد الحياة كالخاتم في اصبعنا نُديرها في أي اتجاه نشاء، نعيشها بأنانية كأنّنا فيها خالدون، لو نحفر في عقولنا حقيقة واحدة: نحن في دار عُبور، مجرّد ضيوف سيأتي يوم الحقيقة، اليوم الذي لا رجعة فيه، لا ندم فيه، هو النهاية لمرحلة والبداية لأشياء أُخرى نجهلها.

هل هناك من عصرته الشدائد فأخرجت أجمل ما فيه، أكيد يوجد فهنيئًا لكم التفاؤل، هنيئًا لكم الصمود فالحياة حقل تجارب لا تنتهي أبدًا، تخرج من دوامة فتدخل أُخرى، ترتشِف من كأس الوجع مرة ومن كأس السعادة مرة، يدخل حياتك أُناس جدد، ليخرج منها آخرون برضاهم التام، لم تتوقّع بأن يُفلتوا يدك يوما لكن هكذا هو الإنسان يتغيّر ويتغيّر فلا يستقر على حال.

عندما تُجهضك الحياة حاول أن تنبت من رمادك، لا تستسلم لأوجاع اليوم، ولا تغتر بسعادة اللحظة اعمل دائمًا فالفراغ قاتِل، اقرأ دائمًا فالجهل بشِع، حاول دائمًا فالفشل مدرسة، لا تتكبٍّر فالوحدة موجعة، لا تستسلم فالنجاح مُبهِر، وأهم شيء لا تتجاهل رغبتك في البكاء فالكبت مُدمِّر، لا تُخفي مشاعرك فالحياة قصيرة، لا تنسى آخرتك فالموت آتٍ لا محال. عندما أجهضتني الحياة وُلدت من جديد، ولدت معي إنسانيتي، كبرت إرادتي وقلّت أنانيتي، لم أدرك يومًا حكمة الأيام حتى جرّبت، لم أجلس مع نفسي غادرتها كثيرًا، لكن جاء اليوم الذي تحطّمت فيه فلم أجدها إلاّ هي، سنتعلّم سواء رضينا أم لا، فلا خيار لنا أمام ممرات الدنيا إلاّ عبورها، وفي تلك الطُرق دروس لا تنتهي وعبر لا تندثر، لنعِشها فقط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.