شعار قسم مدونات

مشروع نهضة (7).. سؤال الهويّة

blogs مجتمع

قد تكون الهوية من بين التحديات الكبرى التي تواجه نهضة الإنسانية، وعندما أقول الهوية هنا فلا أربطها بدين محدد أو بعرق أو بانتماء معين، ومشكل الهوية وتبعاتها عانت منه الإنسانية جمعاء وما تزال، ويمكن القول أن الصراع على أساس الهوية بمختلف أطيافها قد جر على الإنسانية ضررا كبيرا، بدءا برفض الآخر على أساس الدين والعرق واللون، انتهاء بنشوب حروب طاحنة أتت على الأخضر واليابس لنفس الدوافع، وهنا لا يستثنى مكون ديني أو عرقي من هذه الدوامة القاتلة، فكما عانت البشرية من تسلط الكنيسة ورفعها للواء الحروب باسمها، عانى المسلمون كذلك ولا زالوا يعانون من تعدد مناحي فهمهم للهوية بصورة متزمتة، فنمت الصراعات القبلية التي تقدس الطائفة، وتزايد القتل والتصفية على أساس ديني محض، وتوسعت دائرة التعصب والتطرف، وبالتالي فإشكالية الهوية لم تخرج ولن تخرج يوما من إطارها العالمي الواسع.

 
تتضارب مفاهيم الهوية كما يراها المفكرون وكما يتبناها العلمانيون والحداثيون، فمنهم من يؤمن بمبدإ الهوية ويعتبر التعصب لها جزءا لا يتجزأ من تركيبة الإنسان الطبيعية، لكنهم في نفس الآن يدعون إلى الانفتاح على الهويات الأخرى والتعايش معها كون ذلك أصبح ضرورة ملحة لاستمرار البشرية، ومنهم من يرفض أصلا فكرة وجود هوية كصفة ملازمة للإنسان، واعتبروها ميزة قد تعود عليه بالويل أكثر مما تجلب له من امتيازات، لذا رفض هؤلاء مبدأ الهوية ورأوه إعمالا للتفرقة والتمييز بين بني البشر، وتبنوا في المقابل ما أسموه بالهوية الإنسانية التي تجعل الناس سواسية كأسنان المشط في معايير العرق واللون والدين واللغة، ليتعامل الإنسان مع أخيه الإنسان دون الأخذ بعين الاعتبار أي مكون خاص به، وإنما كإنسان عادي يشبه الناس في كل شيء. قد يكون هذا المبدأ أي الهوية الإنسانية مقبولا بالنظر إلى ما آلت إليه الهوية بمفهومها الطبيعي المتداول من مآسي كبيرة، وبالتالي فإن الانفتاح على هوية موحدة قد يشكل حلا جذريا لتجاوز معوقاتها.

وفي نفس السياق، قد تكون الهوية الجامعة التي اعتمدها بعض المفكرين أحد الحلول الناجعة لتهدئة حمية الهوية الداعية بطبيعتها إلى التعصب والانغلاق، ومن هنا أصبح لزاما على المجتمعات التي تتميز بالتنوع الديني واللغوي والعرقي البحث عن قواسم مشتركة تعمل على مراعاتها وإعطائها الاهتمام الأكبر باعتبارها توحد بين كل هذه الاختلافات، فمثلا في لبنان الذي يتميز بتنوع أطيافه الدينية نجد أن تكريس مفهوم العروبة ليصبح جزءا من العقد الاجتماعي اللبناني أصبح ضرورة قصوى، باعتبار أن العروبة هي السمة التي توحد بين مختلف أطياف المجتمع اللبناني، نفس الأمر بالنسبة لبلدان شمال إفريقيا كالمغرب والجزائر وتونس، فمن المعروف أن هذه البلدان هي خليط من انتماءات أمازيغية وروافد عربية، وبالتالي فالحل الذي يمكن أن يتبع في هذه الوضعية للحد من صدامات محتملة بين العرب والأمازيغ هو تعزيز وحدة الانتماء الإسلامي ومحاولة تهميش الاختلاف العرقي، هذه الهوية الجامعة لا بد وأن تكون حاضرة وبقوة في المناهج الدراسية العربية حتى يربى النشء الصاعد على نقاط الوحدة وليس على مكامن التفرقة.

لا يكف التاريخ من أن يذكرنا مرارا بأن الهوية الحقيقية التي تفرض نفسها وتتعايش معها الهويات الأخرى هي الهوية القائمة على خلفية قوية وعتيدة، إذ لا يمكن أن تفرض هويتك دون أن تكون محاطة بهالة من الحماية القوية

الأصل في الهوية أن تتعايش مع الغير صاحب الهوية المختلفة أو المتقاربة معها، وهذا ليس بالأمر الهين، فالصدامات لا تبرح أن تطفو على السطح لأتفه الأسباب، ولفرض مبدأ التعايش الذي هو ضرورة لا مفر منها يقتضي ذلك أن نحدد ماهية هويتنا، وهذا دور مفكرينا ومثقفينا، بمعنى أن نبلور هوية بكل خصائصها ومميزاتها بشكل كامل وواضح ومستقل حتى تتعايش مع الهويات المقابلة، وإلا كيف تتعايش هوية هشة مجهولة المعالم مضطربة الحال مع الآخر، من هنا فإن الإيمان بهوية أصلية ذات خصائص واضحة ومحددة خطوة كبيرة نحو إيجاد أرضية خصبة ومهيأة للتعايش مع الهويات المختلفة.

إن فكرة تأطير هوية خاصة بمجتمع معين يقتضي الأخذ بعين الاعتبار العديد من المعايير الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية، ففي حالة الدول العربية التي لم يمض على زمن تحررها من هيمنة الاستعمار إلا سنوات معدودة، فإن أول الأضرار التي ورثناها من هذا الاستعمار هو تصدع الهوية العربية والإسلامية وتشتتها ودخولها في نفق مظلم، فكيف يمكننا أن نتحدث عن هوية عربية أصلية وغالبية الدول العربية إن لم نقل كلها ما زالت تتبع للاستعمار الغربي، إذ أن منطق التبعية حاضر وبقوة وهو يقتل أية محاولة لإخراج هوية ناضجة فارضة لنفسها على أرض الواقع، من هنا فإعادة الاعتبار للهوية العربية قد يتطلب وقتا أطول بالنظر إلى حجم التحديات التي تواكب هذا الطموح.

إن بصمة الاستعمار الغربي ما زالت واضحة المعالم على مستوى المناهج التعليمية وعلى مستوى الإدارة وعلى مستوى اللغة والقوانين وحتى العادات والتقاليد، وعليه فإن الحديث عن هوية عربية في الوقت الحالي رغم ما لهذه الهوية من إرث تاريخي ضخم سابق لأوانه، يضاف إلى هذه الدائرة المغلقة عامل اللغة وهو العامل الأكثر حضورا في تحديد معالم الهوية، فلا يمكن الحديث عن بلورة هوية عربية إسلامية بالمعنى الحقيقي دون أن تكون اللغة العربية في صميم هذه الهوية، أو بمعنى آخر دون أن تكون اللغة العربية هي العماد الأساسي للهوية، وإذا لاحظنا مناهجنا الدراسية نرى أن التدريس غالبا ما يتم بلغات أجنبية على حساب اللغة العربية الأم، وهذا منذ التحاق الطفل بصفوف المدرسة في سنواته الأولى، وبالتالي فإن ضياع الهوية أو الهوية المتضعضعة هي السمات الأساسية التي تطبع هذا الطفل منذ نعومة أظفاره.

لا يكف التاريخ من أن يذكرنا مرارا بأن الهوية الحقيقية التي تفرض نفسها وتتعايش معها الهويات الأخرى هي الهوية القائمة على خلفية قوية وعتيدة، إذ لا يمكن أن تفرض هويتك دون أن تكون محاطة بهالة من الحماية القوية، وهنا يراودني مثال وهو أن نتخيل مثلا مواطنا أمريكيا صاحب مستوى دراسي بسيط، مع صديقه الرواندي الحاصل على دكتوراه في القانون الدولي، لا شك أن المواطن الأمريكي حتى وإن كان تحصيله العلمي متواضعا سيعامل بلا شك بطريقة أفضل وأرقى في استراليا مثلا من نظيره الدكتور الرواندي، لأن الانتماء لدولة رواندا على سبيل المثال لا يعكس خلفية من القوة يفرضها المستوى العسكري والاقتصادي للدولة، بالمقارنة مع ما تمثله أمريكا في هذا الجانب.

لا شك أن الهوية أصبحت مشروعا قائما بذاته، وهذا المشروع يحتاج إلى نظرة متأنية يجلس لها المفكرون والمثقفون العرب لتحديد صورة متكاملة وواضحة للهوية العربية، هذه الخطوة المنتظرة هي بمثابة بداية مشروع حقيقي طويل المدى سيفرز على الطريق العديد من التحديات العويصة التي لا مفر لنا من مجابهتها، وأنا على يقين أن هذه الخطوة ستقابل حتما بالرفض من المنتظم الغربي الذي ما زال يتبنى فكرة الهيمنة على المستعمرات القديمة، هذا يظهر جليا في قلق فرنسا على سبيل المثال تجاه نية بعض دول شمال إفريقيا التقرب من اللغة الإنجليزية واعتمادها اللغة الأجنبية الأولى للتدريس، قوبل هذا بالرفض من طرف فرنسا بل بلغ الأمر إلى تشكيل ضغوطات لإفشال المشروع وتكريس المخطط الفرانكفوني في المنطقة. كل مشروع قابل للنجاح كما هو قابل للفشل، والهوية العربية كان لها شأن عظيم حين كنا رواد الإنسانية في كل المجالات، أما اليوم فهي تعاني كما تعاني جميع المجالات الأخرى، ورقيها منوط بمشروع نهضة متكامل بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.