شعار قسم مدونات

فقدْ وقعَ أجرُهُ على الله..

blogs مطار

"وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"

   

وردَ في تفسير الإمام الطبري بخصوصِ هذه الآية: حدّثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: "ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، قال: كانَ رجلٌ من خزاعةَ يُقالُ لهُ ضمرة بن العيص – أو: العيص بن ضمرة بن زنباع- قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضًا، فأمر أهله أن يفرُشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ففعلوا، فأتاه الموتُ وهو بالتَّنعيِم، فنـزلت هذه الآية.

 

قبلَ الشروعِ في تحضيرِ المقال وإيصاله لذروته، سأعرّجُ إلى التفسير القُطبي، وإلى ظلالِ القرآن، فلا بدَّ من إيراد الجمال والبهاء في التفسير، وهذا لنْ يكون إلّا مع التصوّر القُطبي لآيات كتاب الله العزيز، يقول سيد قُطب -عليه رحماتُ الله-: "أمّا السياقُ القرآنيّ فيمضي في معالجةِ النفوس البشرية، التي تُواجه مشاقَّ الهجرة ومتاعبها ومخاوفها، وتُشْفِقُ منَ التعرُّضِ لها. وقدْ عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معاً. فهو يعالجها بعد ذلك ببثِّ عوامل الطمأنينة – سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه – في حالة الهجرة في سبيل الله، وبضمانِ الله للمهاجر منذُ أنْ يخرجْ من بيته مهاجراً في سبيله.

 

ووعدَهُ بالسَعة والمتنفَّس في الأرض والمُنطلق، فلا تضيقُ به الشعاب والفجاج، ومنْ ثمَّ يختمُ قائلاً: "وأخيراً يبيّنُ لنا كيفَ كانَ هذا القرآن يُواجه واقعَ الحياة ويقودُ المجتمع المسلم، ويخوضُ المعركة – في كل ميادينها – وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية، وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أنْ نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله".

 

اقتصرَ الأجر على وعدٍ فقطْ، فلمْ يذكرْ ربُّ العزّة نعيماً بعينه، أو جنّاتٍ وفردوس، بلْ قال: فقدْ وقعَ أجره على الله، وهذا يدلُّ على عِظمِ هذا الأجر، فهو لم يُصنّفه إلى أيِّ شكلٍ من أشكال النعيم

 ذكرتُ تفسيرُ الإمام الطبري من جهةِ سبب النزول، وذكرتُ تفسيرها القُطبي كإسقاط لها على واقعِ الحياة، وسيكون التفسير القُطبي هو المُنطلق لهذا المَقال وحجرُ الأساس له، لهذا فقدْ كان البَدأُ بهِ واجباً، وتضمينُه سيجعلُ منَ المقال ثاقباً، ولوجهِ المتخاذلين وأعوانِ السُلطةِ ضارباً، أمّا بعدْ، فعنوانُ المقال وقوعِ أجرٍ، كفِلَهُ ربُّ العِباد كمهرٍ، لمنْ أدركَ حقيقة الدنيا، وهربَ إلى الله متسلّحاً بالتقوى، إنَّ الوعدَ في هذه الآية لأمرٌ عظيم، والظفرُ بهِ جهادٌ وثباتٌ على صراطٍ مستقيم، فالهجرةُ إلى الله ورسوله فعليّةٌ ومجازيّة، فإمّا أنْ تكون كما في سببِ النزول، أوْ أنْ تكونَ كلمةُ حقٍّ في زمنٍ غيرِ معقول!

 

أخذتْ القوافي مَحلّاً علّها تُعطي جماليّةً على الموضوع، والآن، سأستهلُّ حديثي بالشرحِ والتفصيل، وسأضعُ تصوّراتٍ تحتَ مِجهرِ التفضيل، إنَّ طبيعة النفس البشريّة عجولةٌ بلا شكّ (وكانَ الإنسانُ عجولا)، فمسألة استعجال الشيء فطرية بالنسبةِ له، لهذا نرى عزوفاً عن قولِ الحقّ لأسبابٍ عدّة على رأسها الاستعجال، وللتوضيح أكثر، فالأجر الحاصل لمنْ يتخذ قراراً صعباً كالهجرةِ التي وردتْ في الآية، لنْ يكونَ في التوّ واللحظة، وإنّما لحينٍ آخر عندَ ربِّ العباد، ولو فرضنا أنَّ هذا الأجر سيكونُ مقبوضاً كما في تعاملاتنا في حياتنا الدنيا، فسنرى توجّهاً غيرَ الذي نراه في خوضِ المعارك الحقيقيّة، وفي الأمور المصيرية التي لا نرى أجراً لحظيّاً يصحبُها، ونخافُ خوضها من الأساس بحجّةِ الاستقرار من جهة، والرهبة من توابعِ هذه المعارك التي يراها المعظم معارك طاحنة تدمّر البلد والولد في نظرهم.

  

إنَّ الهجرة إلى اللهِ وسوله كما أسفلتْ، إمّا أنْ تكونَ فعليّة، كما فعل الشيخ عبدالله عزّام -عليه رحمةُ الله- مُهاجراً بهدفِ تأسيسِ قواعدٍ لمجتمعٍ جهادي ضدَّ مراكز القوى في هذا العالم، وهذا رأي الكثير من الأئمةِ المُعاصرين في هذا الخصوص، وأنْ الهجرة بعيداً عنْ علمانيّة الدول واجبة، وأنَّ هذه العلمانية لنْ تُحارب تحتَ ظِلّها وسيكون الأمر شبه مستحيل، والشقُّ الثاني هي الهجرة المجازيّة والتي تكون تحتَ الضرب والقصفْ، تكونُ جهاداً في قلبِ المعركة ولا يكونَ فيها هجرة وابتعاد، وهذا على غرار مفسّرنا سيد قطب، والحاجّ مالك الشبّاز أو مالكوم إكس، وأخيراً جهاد الفيلسوف علي عزّت بيجوفيتش، كلُّ هؤلاء القامات هم ممن وقعَ أجرهم على الله وكفاهم بهذا الوعد.

  

لقدْ اقتصرَ الأجر على وعدٍ فقطْ، فلمْ يذكرْ ربُّ العزّة نعيماً بعينه، أو جنّاتٍ وفردوس، بلْ قال: فقدْ وقعَ أجره على الله، وهذا يدلُّ على عِظمِ هذا الأجر، فهو لم يُصنّفه إلى أيِّ شكلٍ من أشكال النعيم، فاجتمعَ في هذه الآية، مقدار العمل وعظمته ومقدار الأجر وعظمته أيضاً فهو أشبه بأنْ يكون لا متناهٍ عندما نُفكّر فيه نحنُ البشر أصحاب العقل المحدود، لهذا كانَ هذا العمل الصعب على النفس من أعظم ما خصّصه الله لعباده، ومنْ شاءَ اتخذَ إلى ربّه سبيلاً.

  

الحوارات في مسائلٍ كهذه، تأخذ منحىً مشابهاً تماماً لما ذكرتُ هنا، فإنْ كنتَ من هؤلاء المدافعين عن هذا الدين الحنيف بأيّ شكلٍ من الأشكال، فالردُّ عليه يكون بالعاميّة عادةً على شكل: "يا رجل ما بطّعمي خبز هاي القصص، وشو جاييك من وراها؟"، وهنا نرى التميّز بين خلقِ الله، فهناك المؤمن الحقّ، وهناك المُثبّط، وأنا من هنا لا أذمُّ أحداً، ولكنْ ما أرمي إليه، أنَّ هذا الانهزامي الذي يدعوك لدعواك هذه من الأفضل أنْ يبقيها لنفسه فقط، ولا يبثّها بين صفوف أهلِ النضال والثورة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون أيّها الأخوة.

   

وكما كانتْ البداية في وقوعِ أجرٍ، فكانتْ النهاية في رفعِ قهرٍ، وكانَ هذا المقال، بينَ انهزاميّةٍ ونضال، ووضعتُ فيه ما في استطاعتي وبما آتانيَ الله، كلٌّ في مقامه ونصابه، ولمْ أتعدَّ أو أتبجّحْ، فالآية هنا قدْ حدّدتْ أيّنا سيكونُ أنجحْ، فاخترْ لنفسكَ واعقلْ، وفي حقِّ نفسك فاحرصْ أنْ تعدلْ، فالطريقُ ليسَ بهيّنْ، ولكنَّ السُلوكَ فيه بيّنْ، فإنْ اخترتَ المراغم والسَعة، فلا تنسَ وُعورةَ الطريقَ وضرب القنا، ولا تعجبْ وترتعدْ مما يُقال، فما تراهُ حقيقةً منَ الممكن أنْ يكونَ خيال، ورأيك ورأيي لنْ يَهمّ، في حضرةِ ربِّ العِباد الذي علّمَ الإنسان ما لمْ يعلم، ولعلَّ الله يُحدِثُ بعدَ ذلك أمرا، في قلوبِ العِبادِ ويُحسنَ المثوى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.