شعار قسم مدونات

أين يتجلى فقدان قيم النزاهة؟

blogs people

تحتل قيم النزاهة مقاما عاليا في منظومة القيم الأخلاقية، لأنها هي المسؤولة عن بروز مجموعة من سلوكيات الإنسان السوية، إذ لا تستقيم تصرفات المرء بدونها، وتتمثل قيم النزاهة في: الأمانة والشفافية والمصداقية والمساءلة…، والتي تقتضي بالدرجة الأولى التوفر على مجموعة من المبادئ الإيجابية التي تعزز السلوك الشريف وتشجع الممارسات السليمة أخلاقيا، انطلاقا من الرقابة الذاتية التي تمكن الفرد من الترفع عن كل تصرف منحرف يخل بموازين العدل والمساواة.

 

بمعنى آخر أن النزاهة هي نوع من الالتزام بالواجب الأخلاقي الذي يفصل بين المصلحة الشخصية والنزعة الإنسانية حينما يوضع الفرد في موقف اختباري حقيقي؛ على سبيل المثال الرشوة: هل سيقبلها المرء حينما يقدمها له صديق مقرب في صورة هدية بطريقة لا تظهر في العلن؟! هنا تظهر حقيقة قيم النزاهة في تحكيم الضمير وتقديم المبدأ لا في التبجح بتلك القيم في حين أن أفعال المرء خالية منها بل هي على نقيضها.

 

وتبرز قيم النزاهة بشكل واضح في المجتمعات الغربية لأنها تحظى باهتمام كبير تنظيرا وتطبيقا من منطلقاتهم الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، أما نحن المسلمين فمعنيون بهذه القيم أكثر منهم لكن مع ذلك فهي غائبة في حياتنا بالرغم من أن دافعها الأساس ديني قبل كل شيء. فلا يوجد بلد محصن ضد الفساد ومع ذلك فإن الدول غير المتقدمة هي الأكثر تضررا من فقدان قيم النزاهة؛ للغياب التام فيها لما يمنع الفاسدين من بث سمومهم، وأخطرها التي تكون سببا في تفشيل مبادرات الإصلاح وجهود التنمية، فعدم تواجد هذه القيم ناجم بالأساس عن فشلنا في صون أنفسنا عن مواقف الريبة والشك وتنزيهها عن الوقوع فيما فيه ظلم للآخرين، فحين تزول من معاملاتنا النزاهة تختفي معها مقومات الإنصاف والثقة في أي مجال من المجالات الحياتية.

 

التواجد في وطن تفتقد فيه قيم النزاهة يعني العيش في بيئة غير آمنة لأن الحقوق فيه تكون مهضومة وغير مصانة نظرا لضياعها في دهاليز المحاكم والمحسوبيات لعدم استقلالية القضاء فيه

عندما تصاب الأمم بالأمراض المعنوية والأدواء الأخلاقية يضعف شأنها وتقوض دعائمها، وليس هنالك شيء أضر بها من أن يقوم المسؤولون فيها بسلوكيات تضر الشعوب بغير وجه حق. فمن جراء فقدان قيم النزاهة انتهكت مظالم كثيرة وضيعت حقوق وواجبات، وفقدت ثروات وهدمت أسر وبيوت، وأهدرت كفاءات وضيعت طاقات، وكل هذا يشير إلى شعوب تنهشها اللاأخلاقية التي خلفها فقدان هذه القيم. وتجدر الإشارة إلا أن قيم النزاهة لا تكمن فيما هو مادي فقط، لأنها في إطارها العام تكون الدافع إلى النفور من كل ما يجذب النفس للطمع فيما ليس لها، وهي التي تمنع المرء من التجرؤ على انتهاك حقوق الآخرين المادية والمعنوية.

 

وراء اندثار قيم النزاهة أزمة أخلاقية كبيرة تعرفها مجتمعاتنا والتي صارت تتخد صورا وأشكالا متعددة، بدءا من كلامنا ومرورا بتعاملاتنا؛ بانتشار الفساد بيننا كالرشوة والمحسوبية والمحاباة والواسطة والابتزاز والاعتداء على حقوق الآخرين؛ فأدى بنا كل ذلك إلى التقهقر والرجوع إلى الوراء، فتهدمت أركان النهوض والتنمية وأضحينا في ذيل الدول المتقدمة، سواء على مستوى الاقتصادي أو التعليمي أو الصحي أو غير ذلك.

 

ويتجلى فقدان قيم النزاهة بشكل واضح حين تكون السلطة في أيدي من ليسوا أهلا لها، لهذا يتم استغلالها استغلالا بشعا من خلال استخدام النفوذ أو التحايل الخبيث على الأنظمة والقوانين القائمة؛ أي استعمال السلطة في غير الغايات التي وجدت من أجلها، مما يؤدي حتما إلى ممارسة مختلف أشكال الظلم والفساد التي بسببها تضيع حقوق كثيرة بتضارب المصالح أو المكاسب غير المشروعة، وهذا بالذات ما يمثل الخطر الحقيقي الذي يهدد الأوطان ويخرب البلدان، ويفسد الشعوب ويدمر العلاقات، ويقتل الثقة ويزرع اليأس.

 

إن التواجد في وطن تفتقد فيه قيم النزاهة يعني العيش في بيئة غير آمنة لأن الحقوق فيه تكون مهضومة وغير مصانة نظرا لضياعها في دهاليز المحاكم والمحسوبيات لعدم استقلالية القضاء فيه، ولهذا وقع سلبي كبير على المواطنين الذين ينتمون لهذا البلد، بل وقد يكون السبب في فساد الكثيرين منهم؛ فبغياب النزاهة تنعدم المصداقية والثقة الشيء الذي يدفع المتضررين إلى إتباع أساليب غير مشروعة لإرجاع ما أخذ منهم بغير حق.

 

ولعل أغلب أصحاب الكفاءات والخبرات الموجودين خارج موطنهم الأم لم يهاجروا عبثا وإنما لفقدانهم النزاهة في بلدانهم الأصلية التي تخلفت شعوبها وانحدرت إلى حافة الإفلاس الأخلاقي، فأصبحت مفتقرة إنسانيا لا تعرف إلا لغة التحايل وبسط القوة لأنها حادت عن جادة الاستقامة، نتيجة لطغيان البرغماتية والنرجسية على أفرادها في مختلف تصرفاتهم، الشيء الذي أدى إلى بروز أجيال لا تفكر إلا في مصلحتها الشخصية ولو على حساب تجردها من كل ما له صلة بالقيم الأخلاقية، وهذا ظاهر بوضوح في تواجد كثير من المسؤولين الفسدة الذين يسنون شرائع خارجة عن دائرة الصواب الأخلاقي، والمصيبة الكبرى في اعتقادهم بأن الأرحام لم ولن تغيض بأمثالهم، وعلى قول المثل: "أخذوا زمانهم وزمان غيرهم"، غير آبهين بحاجة الأجيال اللاحقة إلى قيم النزاهة.

 

ترسيخ قيم النزاهة في مجتمعاتنا يستدعي العمل على تأسيس ثقافة عامة تجعل تبني هذه القيم أمرا ضروريا وواجبا أخلاقيا

ومن المؤكد أن الأشخاص النزهاء هم في بالأساس أفراد أسوياء صادقون مع أنفسهم ولا يغشون ولا يخدعون رفقاءهم البشر البتة، لكن بالرغم من ذلك فهم في أغلب الأحيان يصدقون ما يحلو لهم وليس بالضرورة ما هو صائب، وبطبيعة الحال فنزاهة الإنسان تؤثر‏ في نظرة غيره إليه وفي تعاملهم معه وكذلك الشأن في غيابها؛‏ فإذا علم الآخرون بعدم نزاهتنا لهم‏ حتى ولو مرة واحدة‏ سيفقدون ثقتهم بنا وسيصبح من الصعب جدا استردادها، ومن جهة أخرى إذا كنا نزيهين سيعتبروننا جديرين بالثقة؛ فوجود النزاهة يمنح السمعة الطيبة وفقدانها يلطخها ويجعلها سيئة.  

 

لا جدوى من رفع الشعارات البراقة والجذابة لمحاربة كل ما يؤدي إلى فقدان قيم النزاهة، فلقد أصبح الكلام عن الأخلاق والنزاهة والأمانة والصدق في العصر الحاضر غير مقنع للبشرية جمعاء؛ فالخطب والمواعظ والنصائح لم تعد قادرة على تغيير سلوك الإنسان المعاصر، خصوصا وأن المسؤولون في أوطاننا لا يطبقون الأخلاق والنزاهة والشفافية في جميع مسؤولياتهم التي هم مكلفون بها، في ظل انعدام المحاسبة الحقيقية للاختلالات والتهاونات بالرغم من كثرة المراكز والهيئات الرقابية المنشأة لهذا الهدف، فإن لم يمنعهم الضمير الحي والقانون المفعل والعرف الأخلاقي من أن يقوموا بتصرفات تجردهم من قيم النزاهة وتشوه بإنسانيتهم فمن سيمنعهم؟!

 

إن ترسيخ قيم النزاهة في مجتمعاتنا يستدعي العمل على تأسيس ثقافة عامة تجعل تبني هذه القيم أمرا ضروريا وواجبا أخلاقيا، وهذا ليس بالأمر الهين لما يتطلبه من إصلاح لأدوار مؤسسات مختلفة لم تعد صالحة مع استفحال انتشار الفساد، والمساهمة في تفعيل مقتضيات هاته القيم التي يزيد بفضلها الوعي الفردي والجمعي بأهمية مكافحة الفساد، وتكريس ذلك لن يتم بدون الارتماء بالعقول في محاضن العلم والارتقاء بها في صروح المعرفة، كما أن توفير القوانين وحدها لا يكفي إن لم تكن مدعومة بسلطة تنفيذية قوية ومصحوبة بضمير حي رادع ورقيب؛ فمن دون الضوابط الإجرائية الحقيقية التي يدعمها الالتزام الأخلاقي الداخلي لا يمكن أن تستعاد قيم النزاهة المفقودة التي تتطلب تربية قيمية فعالة تقوم على تشكيل جدار مانع يحمي الإنسان من انحرافه السلوكي وتجعله متوازنا وسويا في ما يفعله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.