شعار قسم مدونات

كنا أصحاب حق فصرنا أصحاب سوابق!

blogs حرية

يقولُ الماغوط: "كُنّا أصحابَ حقٍّ فصرنا أصحاب سوابق"، وما قاله الماغوط هنا هو غيض من فيض فيما يتعلّق بكفره بالسُلطة، وسيلحظُ القارئُ لهُ السوداويّة المُحيطة بكتاباته، والهالة الكئيبة  التي تُحيطُ بها، ولكنّها كذلك، لأّنَّها تصفُ حالَ الأنظمة العربيّة والاضطهاد والقمع المُمارس من قِبلهم على شعوبهم، فكتابات الماغوط هي ردّة فعل ليستْ طارئة، وإنّما هي ردّة فعل ذات ملامح غاضبة يائسة على ممارسات جعلتْ مِنَ الحقِّ باطلاً، ومِنَ الباطلِ حقّاً في عيون العامّة والدهماء، وهذا للأسف قدْ أخذَ مكانه لعقود، وخاصةً في عقلِ المواطن العربي.

 

لطالما كانَ العملِ السياسي المُتَمثِّل بالأحزابِ المُرخصّة تحت مظلّة أيّ نظام عملاً يخلو من أيِّ تغيير حقيقي على الأرض! وهذا يعودُ إلى أسبابٍ عدّة، وعلى رأسِها: الخوف من النقد لما يُسمّى بالمقامات العُليا، ونحنُ من منبرنا هذا لا ندعو إلى محوِ هذه المقامات مثلاً! ولكنْ رسالتنا مُختلفة بعضّ الشيء، ولا ندعو إلى تخريبٍ بحدِّ ذاته لأيِّ نظام، فالتغيير يكونُ بموجبِ قواعدٍ صريحة، وخطواتٍ تأخذُ وقتاً، ومن الضرورة إعطاء كلَّ خطوةٍ حقّها لاستيفاء جميع المتطلّبات، ومن ثمَّ تبرئة الذمّة من أيّ تبعاتٍ بعدَ ذلك، فالحياةُ قصيرةٌ، ولنْ تُعاش بذُلٍّ وعلى نفسِ الوتيرة.

 

ما يتمُّ بثّه بين صفوف الشعب يكون كنوعٍ من التفرقة، فالفئة العاقلة المُدركة لما يحصلْ يتمُّ تحجيمها وعزلها عن الرأي العامّ إنْ تمادت في النقد وما إلى ذلك، وفي هذا ضمان لبقاء الدهماء على عماهم

دعوني أُعرّجُ قليلاً على الفئاتِ التي تُوالي السُلطة بشكلٍ عامّ، فمنْ الضروري الإشارةُ إليهم، وذلك كيْ نُخرجهم من دائرة الشُبهة –إنْ جازَ التعبير- ونضعهم في مقامهم الصحيح، أوّلُ فئةٍ: هي الفئة المتسلّقة الطفيلية، والتي تستفيد من النظام وتتغذّى عليه كالطفيليات، فكيفَ لهذه الفئة أنْ تُعارض أيّ نظام من الأساس؟ الفئة الثانية: هؤلاء الذين يخافون ويرتعدون من النظام، ولا يتفوهون بأيّ شيءٍ يُسيءُ له على الملأ! ولكنّهم يتكلّمون وينتقدون في الخفاء، وكلّما سنحتْ الفرصة بذلك، وأخيراً الفئة الثالثة والتي يكونُ استيعابها ضرب من المستحيل، فهؤلاء لا يستفيدون من السُلطة بشيء، وحالهم كحالِ الجميع من العامّة، ولكنّهم من المصفقين والمُدافعين عن السُلطة، وهذه وظيفتهم وغايتهم أينما حلّوا.

 

الأنظمة ذكيّة جدّاً، وفي الغالب دائماً ما تلعبْ، وتسير في نهجِ السياسة الميكافيللية، وتحديداً في مسائل لفت نظر الشعوب والتلاعب بها، فعندما نرى احتجاجاً ما في دولة معيّنة، أوْ عندما نرى أوضاع تعيسة بائسة لشعب معيّن، فأوّل ما يفعله النظام هو لفتْ نظر الشعب لقضيّة ثانية مُستحدماً الإعلام بلا شكّ، فأحد أساليبهم هو تصوير الحاكم في موقف إنساني خيّر وعرضِه للنّاس، فكما قالَ ميكافيللي: العوام يهمّهم المظهر الخارجي، والسواد الأعظم من الشعب هم العوام، وتبدأ النّاس بالتهليل والتصفيق لهذا الموقف، متناسين بلا شكّ القضية الأكبر والأهمّ، وهذا ليسَ بجديد، وترى الكثير ممن يدركون هكذا أساليب، ولكنْ هل تغيّر شيء؟ بالطبع لا، لهذا نعود إلى صنف المرتعدين الخائفين الذين يخلقون التبرير من لا شيء كيْ يقولوا أنَّ الوضع على ما يُرام.

 

ما ذكرتُه سابقاً لا ينفي وجودَ بعض العُقلاء، ولكنْ، ما يتمُّ بثّه بين صفوف الشعب يكون كنوعٍ من التفرقة، فالفئة العاقلة المُدركة لما يحصلْ يتمُّ تحجيمها وعزلها عن الرأي العامّ إنْ تمادت في النقد وما إلى ذلك، وفي هذا ضمان لبقاء الدهماء على عماهم وتصديقهم لما ينشره النظام في الإعلام. إنَّ الطريق لمُحاربة هذا التيّار يكون في إجماع شعبي حقيقي عن قناعة ووعي، فلا بدَّ من خلق وعي جماهيري أولاً ومنْ ثمَّ استئناف حركات مضادّة تحكمها ضوابط ومعايير واضحة، وهذا لضمان مسيرة أيّ ثورة وكيْ لا تذهب أدراج الرياح.

 

إنَّ الحجّة المعتادة لتبرير الهروب من مواجهة طاغية بعينه، هي الافتقار لوجود بديل يتقلّد السُلطة –على حدِّ زعمهم- وأنَّ الموجود لا بأس به، ومن هذه النقطة نعود إلى مسألة الوعي الجماهيري من جهة، وإلى القامات والقيادات في المعتقلات، وإنّني لأرى أنَّ زجَّ أيّ مؤثر في السجون ما هوّ إلّا تصفية لما يُشكّلُ خطراً على النظام، ولكيْ يضمن هذا النظام أنَّ فكرة "عدم وجود بديل" والتي يتبنّاها عامّة النّاس ستأخذ محلّها دون زعزعة، ولينعم النظام برغدِ العيش آمناً مُطمئناً لا يُعكّر صفوه أحدْ، ولا يلقي بالاً لمفكّرٍ بزغتْ شمسه بين النّاس وصارَ قدوةً لبعضهم.

 

يقولُ الحاج مالك الشبّاز أو مالكوم إكس –عليه رحمةُ الله-: "استحالة أنْ تحصلْ على ثورة غير دموية، أو ثورة غير عنيفة، حتّى أنّك لن تحصلْ عليها في أفلام هوليوود، الثورة تدمّر الأنظمة وتقلعها"، وهذا الطرح منطقي ويدلُّ على بُعد نظرة وقراءة فاحصة متمعنّة للتاريخ وثوراته، فما يُسمّى بثورة غير دموية ما هو إلّا تعبير ساذج هدفه نزع المعنى والقداسة التي تُحيط بالثورة الحقيقيّة وبمعناها الحقيقي، فعندما يقفُ الشعب مُعلناً عصيانه لنظامٍ ما، فلنْ يقفْ النظام متفرّجاً، فهؤلاء الطُغاة سيبذلون أقصى ما لديهم لقمعِ الشعب وجعله يَعدُلْ عنْ ثورته، وهذا سيُصعّدْ الموقف وينتقل به إلى دموية حتميّة لا فرار منها.

   

نحنُ هؤلاء الهراطقة الذين يتحدّثون عن الحريّة كثيراً، وعن الخُبزِ قليلاً، نحنُ هؤلاءِ الذين لا نُحِبُّ السُلطةَ ولا تُحبّنا السُلطة، نحنُ هؤلاء الذين لا يُقدّمون شكواهم للنظام

قراءتي للواقع الحالي من بؤس ومآسي، والثورات التي صاحبتها والتي اسُتغلّت من جهة، وتمَّ الانقلاب عليها من جهةٍ أخرى، قراءةٌ تحملْ ما حمَلُهُ الماغوط! وأودُّ الرجوع لما أشرتُ إليه في البداية بخصوص الضوابط والخطوات التي أرى فيها طريقاً للتغيير، فالأمر يكونُ في حصرِ المشاكل التي تعصفُ بالشعب، ومنْ ثمَّ النظر فيها بالتتابع مع خلقِ وحدوية بين الصفوف، وهذا منْ أهمِّ الخطوات، فالنزاعات بين الأحزاب والحركات لنْ يعودَ بشيء، وهذا وكما قلنا سابقاً أنّه من أفعال الأنظمة، فوالله لنْ تقومَ لنا قائمة ما دام النزاع موجود بين الصفوف، وفي الخطوة الثانية، وإنْ وُجدَتْ الوحدة بلا شكّ، ننتقلْ إلى حوارات مع رؤوسِ النظام، ونبدأ بعرض هذه المُشكلات سواءً كانتْ مُشكلات اقتصاديّة، اجتماعيّة، وسياسيّة، ونرى بالمُقابل ماذا سيكون ردّة الفعل للنظام على هذه المُشكلات، ولطالما كانتْ المُشكلات الاقتصاديّة على رأسِ هذه المُشكلات، ومشكلة القمع ونسف حريّة التعبير والنقد كمشكلة سياسيّة.

  

وكيْ تتوضحُ الصورةُ أكثر، هذه الخطوات يجب أنْ تُتبع في مجتمع رافض لجميع مظاهر الحضارة الغربيّة بشتّى أشكالها، فالرأسماليّة هي من أوصلتنا إلى ما نحنُ فيه! حتّى أنَّ سُلطة عبّاس في الضفةِ الغربيّة قدْ فتحت مجالاً للبنوك والإقراض لجميع فئات الشعب، كيْ ينغمسوا في الديون ويتناسوا الاحتلال بالمُطلق، وهذا هو نِتاج الرأسماليّة في جميع أصقاعِ الأرض، فهو الذي أوصلَ النّاس إلى فكرة "نريد أن نعيش فقط" ومسألة النهوض بالشعب ومجابهة ظلم السُلطة سيكون آخر هموهم، والتناقض يكمنْ في أنَّ جميع هذه الهموم قدْ أنتجتها السُلطة.

 

الحالة صعبة جدّاً في هذه المعركة ولكنّها ليستْ مُستحيلة، وأولى هذه الخطوات هو ترسيخ مفهوم النظام الإسلامي بين النّاس، وذلك أنَّ الأغلبيّة لا تُريده، ولأنّها قدْ تعوّدت على النظام الغربي للأسف، ولهذا قال المُجاهد الفيلسوف بيجوفيتش: "أنَّ النظام الإسلامي لا يُمكن أنْ يتعايش مع أيّ نظامٍ آخر"، وهذا ما نرجوه كبداية لوضعِ الأسس الإلهية الصحيحة كيْ تعيها البشر، من تشريعات وعبادات توقيفيّة وتعاملات مع المخالفين لديننا، إنَّ المعركة طويلة، وقلب المفاهيم سيحتاج إلى الكثير، وهذه الوحدوية لنْ تأتي بيسرٌ وسهولة، فالمخالفين من الشعب يتساوون مع المخالفين من أبناء السُلطة، فمعركة كهذه ستكون على جبهاتٍ عدّة، فكفري بالسُلطة سيختلفُ تماماً عن كفرِ يساريٍّ بالسُلطة ولنْ نتفق! ولكنْ وعلى الأقلّ فقدْ اتفقنا على كفرنا بالظلم، القمعِ، والاضطهاد.

 

فنحنُ هؤلاء الهراطقة الذين يتحدّثون عن الحريّة كثيراً، وعن الخُبزِ قليلاً، نحنُ هؤلاءِ الذين لا نُحِبُّ السُلطةَ ولا تُحبّنا السُلطة، نحنُ هؤلاء الذين لا يُقدّمون شكواهم للنظام، فكيف لنا أنْ نفعل هذا؟ وكيفَ لنا أنْ نقدّمها للمُجرم؟ فالحريُّ بنا أنْ نُقدّم هذا المُجرم للمُحاكمة، لا أنْ نُقدّم له المشاكل، ولكنْ، وإنْ تنحّى، فسيكفي اللهُ المؤمنينَ شرَّ القتال!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.