شعار قسم مدونات

أن تفقد الشغف في الكتابة!

blogs كتابة

سَأَلَهُ سائِلٌ: لماذا توقّفتَ عن الكتابة؟ جاوبَ ببداهةٍ وسُرعة: فقدتُ الشغفَ، وهذا كلُّ ما في الأمر! حينئذٍ، حلَّ عليه شبحُ الأفكار والذي بدوره فتحَ باباً منَ الجدلِ بخصوصِ فُقدان هذا الشغف! وما الأسباب التي تجعلْ مِنَ الإنسان خاملاً؟ وتُوقِفُ سيولةَ قلمِه! في وقتٍ كانَ فيه مِعطاءً، ومهووساً فيما يكتبْ!

  

جلسَ الصديقان، ولمْ يلتقيا منذُ زمن، وقدْ كانا في لهفةٍ للاستهلال في حوارٍ كما اعتادا في الماضي على هذا! ولكنْ، وبحكمِ الغياب، استغرقَ الأمر هنيهةً كي ترجعْ الأمور إلى سابقِ عهدها، وقدْ اعتادا أيضاً على القفز عن حواراتِ الكلام الاجتماعي المُستَهلك، والمُندرج تحت الأحوال، الأخبار، والطقس، وكانا من هؤلاء القوم الذين يبدأون بالكلام فيما يهمّهم فقط! والاستفادة قدرَ الإمكان من الوقتِ المُتاح لإتمام حواراتهم، وقدْ كانَ المِفتاح لمَ توقّفتَ عنْ الكتابة يا صديقي؟

 

احتدمَ المشهد، وتحوّلَ إلى صِراع لمْ يكنْ بالحُسبان، إلّا أنَّ صاحبنا الذي اعتراه الصمتْ قدْ تكلّم، وحاولَ أنْ يخلقَ شيئاً من الكوميديا في ثنايا هذه الغرابة! أولمْ يُؤمن أنَّ الكوميديا في صميمها هي تراجيديا لا محالة

كانَ جوابه في البداية أنّه قدْ فقدَ الشغف، ولكنْ، ومع صديقه هذا ستختلف المُعادلة تماماً، ولنْ يكون الردّ فقداً للشغف فقطْ، وإنّما سيحتاجُ إلى شرحٍ مفصّل ووافي مُبيّناً دواعي هذا التوقّف الغير المُبرّر من وجهة نظر صديقه! حاولَ صديقه أنْ يكسرَ حاجزَ الصمت، وحاولَ أنْ ينسف هالة الغرابة التي تُحيط بجلستهم، وقالَ لصديقه: هيّا، ادلُ بدلوكَ يا غُلام، وهاتِ ما عندك رعاكَ الله! ضحكَ صديقه! ثمَّ قال: المسألة أعقد مما أتخيّل، حتّى أنّني لا أعلمُ حقيقةً ما الذي دهاني لأتوقّفَ عن الكتابة! حاولتْ مراراً وتكراراً أنْ أكتبَ في الفترةِ المُنصرمة، ولكنْ دونَ جدوى، والكثير من الأفكار كانتْ تجتاحني لتبرير هذا الكسل –إنْ صحَّ تسميته بهذا- ولمْ أصلْ لسببٍ حقيقيّ صراحةً، وبالمُقابل، كانَ هذا الصِراع مليء بالقراءة، والاستزادة على طولِ الخطّ.

 

تابعَ كلامهُ قائلاً: إنَّ هذا التوقّفْ طبيعي أحياناً، فقدْ كانتْ أحد الأفكار، أنَّ الكتابة صارتْ لا تُجدي نفعاً، ولا تُغيّر حالاً، وهذا تناقض صريح، ذلك أنَّ المُتحدّث هو نفسُ الشخص الذي كتبَ عن تركِ الأثر، وأنَّ الاستهانة بأيِّ فعلٍ يقومُ بهِ الإنسان ما هو إلّا شكل منْ أشكال الانهزامية والوقوف على جانبِ الحياد، استرسل متحدّثاً بشغف، فعلى الأقلّ لمْ يفقدْ شغف الحوار: إنّني أُدركُ هذا التناقض ولكنْ، دوامُ الحالِ منَ المُحال كما يقولون، وعزاءُ الكاتب بإمكانه أنْ يُقولَب في أشكالٍ عدّة، والوقوف على مسألة كهذه وتبريرها على أنّها صحيحة، ستبدو بسيطةً لمنْ اعتادَ التنظير والمُحاججة في شتّى القضايا وتعقيدات الحياة ِالدنيا يا صديق

 

في خلالِ حديثه، قاطعهُ صديقه وقال بصوتٍ عالٍ: عجيبٌ ما تقول يا أخي! ما الذي دهاكْ؟ وهل أنتَ مقتنع بما تقول؟ ألهذا الحدّ صارَ للسوادِ هيمنةً على تصوّراتك؟ ردَّ عليه بهدوء –معْ أنّه من هؤلاء الحادّين سليطي اللسان- لا، لا علاقةَ للسواد بما أقولْ، ولمْ أُقْحِمُه أساساً في تبريرِ هذا الفقدْ، ولكنّي قرّرتُ الابتعاد عن العيش في أحلامٍ ورديّة، وأنْ أكونَ أكثرَ واقعيّةً يا صديقي، وإنْ بدا هذا على أنّه سوداويّة مقيتة للمتلقّي وللقارئ! ولكنْ، رحيل هذا الشغف سيعودُ عليّ بمنافع جمّة لمْ أكن أدركها في وقتِ الكتابة! فغيابُ الشيء يا صديقي سيُبيّن لكَ حقيقته وسيُفصحُ عنها بطريقةٍ لمْ تعهدها بالمرّة.

 

أصيبَ الحوارُ بعطبٍ بسيط، ودخلَ الصديقان في هذا الدهليز المعروف بالبيزنطية، ولم يعودا بصددِ إكماله حتّى، ورجعَ الصديق فاقدُ الشغف إلى صمته، أمّا الآخر فدخلَ في مهاتراتٍ هدفها الاستفزاز لا أكثر، وبلا شكّ فهي من طرفٍ واحدٍ فقط، فهوَ يعلمُ هذا، ويعلمُ أنَّ الصمت قدْ خيّمَ على صديقه، ولكنّه منْ صنفِ المراوغين البارعين! واعتادَ أنْ يكونَ ندّاً له في صمته، واعتادَ أنْ يشرع بالقصف والمضايقة حينما يدخلَ رفيقَ عمرِه في هذه الحالة! آملاً وراجياً أنْ يُحرِّكَه، ويُحطّم هذه الحالة العجيبة المهيمنة على عرّابِ الفقدِ هذا، وعندَ لحظةٍ معيّنة أيضاً، يَنسى تماماً أنّه يعرفه ويبدأ بالهمزِ واللمز، وكأنّه يُصارع أحدهم في حلبةٍ ما، وهمّه الوحيد أنْ يرى خصمَه مطروحاً على الأرضِ خائرَ القوى، وما باليدِ حيلةٌ غيرها، فهي السبيل الوحيد -بانقطاع السُبلُ- لقلبِ حقائقٍ قدْ أخذتْ مكاناً عظيماً في عقلِ صديقه.

 

احتدمَ المشهد، وتحوّلَ إلى صِراع لمْ يكنْ بالحُسبان، إلّا أنَّ صاحبنا الذي اعتراه الصمتْ قدْ تكلّم، وحاولَ أنْ يخلقَ شيئاً من الكوميديا في ثنايا هذه الغرابة! أولمْ يُؤمن أنَّ الكوميديا في صميمها هي تراجيديا لا محالة، ولكنّها أخفُّ وطأة من التراجيديا نفسها، إذْ أنّها تفرضُ نفسها بالضحك في ظاهرها وهذا يكفي، ردَّ ضاحكاً: هوّنْ عليكَ يا صديقي! لا نحتاج لهذا العنف، ولا نحتاج إلّا أنْ نكونَ في سلام، وإنْ لمْ نكنْ فدعنا نُحاول على الأقلّ، أنا يا صاحبي لمْ أنوِ تصعيدَ الأمر، ولطالما قلتُ هذا! وفي كلِّ مرةٍ أقولها، أُخفِقْ وأسقطْ في فشلي، ومنْ ثمَّ أنهضُ من جديد، لا لأنّي أُريدُ النهوض، ولكنْ، لتذكّري "ودَّ الشيطانُ لو ظفرَ منكم بهذه"، أنا يا صاحبي قدْ فقدتُ الشغف، ولا أريدُ الحديثَ عنه حتّى، ولا أريد الغوصَ فيه، ولا تبريره، وكنتُ أقول لنفسي: فليكنْ! وعلى الرُغمِ من كلِّ هذا كتبتْ، وحملتُ القلمْ المُغبَرّ، وخرجتُ من انشداهي الفاقد للشغف!

 

فعلتُ ما فعلتْ يا صاحبي، كي لا أعتادَ على هذا الفقد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.