شعار قسم مدونات

أميركا ليست السبب.. ما أبرز التحديات الاقتصادية التي تهدد الصين؟

blogs الصين

كنت قد تحدثت في مقال سابق عن توجهات الصين الجديدة وخططها الاقتصادية الهادفة إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الصيني من اقتصاد يعتمد على الصادرات واستثمارات القطاع العام ويعتبرها المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي المتسارع، إلى اقتصاد يرتكز النمو فيه على كل من الاستهلاك وقطاع التكنولوجيا، وذلك وفقاً لخطة اقتصادية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز رفاهية المواطن الصيني، واللحاق بركب الدول المتقدمة الأخرى.

فمن خلال الاطلاع على بعض الإحصائيات الأخيرة المتعلقة بمؤشرات التجارة الدولية ومعدل كل من الاستهلاك والاستثمار، يمكن الاستدلال على طبيعة ذلك التحول الاقتصادي للصين، فبدءاً من الصادرات، حيث بلغت صادرات الصين نسبةً للناتج المحلي الإجمالي نحو 20 بالمئة في 2017، محققةً انخفاضاً كبيراً قدره 12.5 بالمئة عما كانت عليه في 2008، كما انخفضت الواردات من 24 بالمئة عام 2011 إلى 18 بالمئة عام 2017. من جانب أخر، شهد الاستهلاك المرتبط بالقطاع العائلي في 2016 ارتفاعاً معنوياً ليبلغ ما يقارب 39.5 بالمئة نسبةً من الناتج الإجمالي مقارنةً بـ 34.5 بالمئة في 2010، أي أنه ازداد بمقدار 4 بالمئة خلال تلك الفترة، بينما انخفضت الاستثمارات الرأسمالية من 47.5 بالمئة في 2010 إلى حوالي 43.5 بالمئة في 2017، مما يؤكد ميول الصين نحو الاستهلاك على حساب كل من الاستثمار وحجم الميزان التجاري. 

على الرغم من كل تلك المؤشرات المبشرة بتحول بنيوي حقيقي في الاقتصاد الصيني، إلا أن الإجراءات التوسعية في كل من السياسات النقدية والمالية التي تم الإعلان عنها مؤخرا والتي تتمثل بخفض نسبة الاحتياطي النقدي في البنوك والتي ساهمت بدورها في ضخ ما يقارب 210 مليار دولار أمريكي في النظام البنكي، بالإضافة إلى خفض نسبة الضريبة على الشركات الصغيرة وزيادة الإنفاق العام، فهي إن دلت على شيء، فإنّما تدل على تخوف الحكومة الصينية من بوادر حدوث كساد اقتصادي قريب في البلاد، ناتجاً عن التباطؤ الواضح الذي شهده النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة. فمن الواضح أن الهدف وراء تلك الإجراءات التوسعية هو محاولة حث الاقتصاد على النمو من خلال تحفيز كل من الاستثمارات الخاصة والعامة معاً، والمساهمة في خلق المزيد من الوظائف لدعم القوة الشرائية للمواطن الصيني، وبالتالي دفع الاقتصاد إلى تحقيق معدلات نمو مقبولة تجنب الصين حدوث أي انكماش اقتصادي قد يوقع البلاد في كساد عميق يمتد لعقود. إذاً ما هي العوائق أمام التحول البنيوي للاقتصاد الصيني؟

ضعف ثقة المستهلك في الاقتصاد الصيني
معدل الديون هو عامل أخر من العوامل التي لها تأثير على ثقة المستهلك، ففي نهاية 2017، تجاوز معدل الديون في الصين 300 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تعتبر نسبة كبيرة مقارنة مع الدول النامية الأخرى

دائماً ما ترتبط ثقة المستهلك وتوقعاته حول المستقبل بحالته المالية، والتي في الحقيقة ماهي إلا انعكاس للوضع الاقتصادي في البلاد التي يعيش فيها، ففي حال كانت ثقة المستهلك وثيقة في اقتصاد بلده، فعندها ستتكون لديه رغبة في الانفاق والاقتراض وتنشيط النمو الاقتصادي، بينما في حال عدم وجود ذلك التفاؤل حول الوضع الاقتصادي، فعندها سيكون المستهلك في ريبة من أمره حول اتخاذ قرارات تتعلق بالاستهلاك أو الاستثمار، وبالتالي سيعزف عن القيام بذلك، مرجحاً الادخار أو حتى الاكتناز على الانفاق، الأمر الذي قد يدفع النمو الاقتصادي إلى المزيد من الانخفاض، ومن ثم الوقوع في انكماش اقتصادي.

ففي الصين، منذ الأزمة المالية العالمية، بقي مقياس ثقة المستهلك تحت الحد المتوسط، حتى أنه سجل أدنى معدل له في تموز لعام 2013 والذي بلغ 95.8، وذلك وفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فعلى الرغم من تحسنه في مطلع عام 2017 وتجاوزه 100 إلا أنه بدأ بالهبوط مجدداً في الربع الأول من عام 2018، وذلك نتيجة التوترات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية. 

إذاَ، ما هي العوامل وراء ضعف ثقة المواطن الصيني في اقتصاده؟

هناك عدة أسباب تكمن وراء ضعف ثقة المستهلك في الصين، نبدأها بالانخفاض المستمر في النمو الاقتصادي الذي شهدته الصين منذ 2011، حيث وصل إلى 6.4 بالمئة في الربع الرابع لعام 2018، وهو أدنى معدل له منذ الأزمة المالية، وعادة ما يرتبط بهذا الانخفاض هبوط في كل من معدلات الاستثمار والتوظيف والدخول، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على معيشة المواطن الصيني ورغبته في الاستهلاك.

كما أن الانكماش الأخير في السوق العقاري والذي كان أحد أسبابه السياسات الحكومية لكبح عمليات المضاربة لعب أيضاً دوراً هاماً في إضعاف ثقة المستهلك، حيث انخفضت معدلات بيع المنازل بشكل كبير والتي بدورها مارست ضغوطاً على أسعار المنازل مؤديةً إلى انخفاضها، ففي شنغهاي مثلاً قُدّر الانخفاض في أسعار المنازل هناك ما يقارب 10 بالمئة، بينما تعرضت بعض المدن الرئيسية الأخرى إلى موجات انخفاض أكثر قساوة، فوفقاً لدراسة استقصائية قامت بها جامعة كابيتال للاقتصاد والمالية، انخفض معدل ثقة المستهلك اتجاه العقارات إلى مستوى متدني بلغ 82.5 في الربع الرابع لعام 2018، حيث تأتي أهمية العقارات بالنسبة للمستهلك كونها تشكل الجزء الأكبر من ثروته، فانخفاض أسعارها تعني تقليصاً لثروته، وبالتالي فقدانه الثقة في الاقتصاد. 

معدل الديون هو عامل أخر من العوامل التي لها تأثير على ثقة المستهلك، ففي نهاية 2017، تجاوز معدل الديون في الصين 300 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تعتبر نسبة كبيرة مقارنة مع الدول النامية الأخرى، وبالتالي تشكل مصدر قلق للمستهلك وخاصة أنها تترافق مع انخفاض غير مسبوق في النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى أن تمويل جزء كبير منها والذي يقدر بـ 20 بالمئة من كامل القروض يتم عبر نظام الظل المصرفي، حيث معدلات الفائدة المرتفعة والمبالغ بها، والمخاطر الكبيرة المرتبطة بها. 

وأخيراً، فإن الحرب التجارية الجارية بين كل من الصين والولايات المتحدة الامريكية ، والتي بدأت منذ مطلع عام 2018 زادت من الضغوطات على الاقتصاد الصيني وعمقت المشكلة أكثر فأكثر، فقد بلغت قيمة التعريفات الجمركية التي فرضتها أمريكا على صادرات الصين ما يقارب 250 مليار دولار أمريكي، بينما ردت الصين هي الأخرى بفرض تعريفات جمركية عليها تقدر بـ 110 مليار دولار أمريكي، مخلفةً وراءها خسائر كبيرة جداً وقعت معظمها على عاتق الشعب الصيني، فزاد ذلك من قلقه حول المستقبل وساهم في هبوط ثقته في الاقتصاد إلى مستويات مرتفعة.

دور السياسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية

هل لعبت فعلاً السياسة النقدية المتبعة من قبل الحكومة الأمريكية دوراً مؤثراً في كبح التحول الهيكلي للاقتصاد الصيني؟ بعد تفجر الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة الأمريكي واندلاع الأزمة المالية العالمية، تبنت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي مجموعة من السياسات التوسعية التي تهدف إلى تحفيز الاقتصاد العالمي مجدداً، حيث شملت تخفيض أسعار الفائدة إلى مستويات دنيا، بالإضافة إلى انتهاج سياسات نقدية غير تقليدية تدعى عمليات التيسير الكمي. في تلك الأثناء، استفادت الصين وبعض الدول النامية الأخرى من الانخفاض الكبير في معدلات الفائدة الأمريكية والأوروبية، وذلك من خلال جذب كميات ضخمة من رؤوس الأموال نحوها، باحثةً عن عوائد مرتفعة.

لكنّ ذلك لم يدم طويلاً، فمع بدء تعافي اقتصادات كل من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، بدأت السياسات النقدية لتلك الدول بالتغير والعودة تدريجياً إلى حالتها الطبيعية لتساهم مجدداً في تعزيز دور الولايات المتحدة كبيئة جاذبة لرؤوس الأموال لما تتميز به من عوائد ربحية ومستوى ائتماني مرتفع، وبالتالي عرّضت الدول النامية ومن ضمنها الصين لتدفقات رأسمالية كبيرة إلى الخارج، متجهةً مجدداً نحو بنوكها المصرفية والتي كانت قد شهدت استقراراً نسبياً في السنوات الخمس الأخيرة. 

فالهروب المتسارع لرؤوس الأموال إلى الخارج، كرّس لدى الصين مخاوف كبيرة حول كساد محتمل قد يحل ببلادها، فلم تجد أمامها سوى اتخاذ إجراءات استباقية ستؤخرها حتماً عن الوصول إلى أهدافها التي طالما سعت من أجلها مؤخراً، إلا أنها ستجنبها من الوقوع في ركود طويل قد يُدخل البلاد في حلقة مفرغة.

في الختام، فإنّ الصين على دراية تامة في أن تذليل العقبات أمام التحول البنيوي لاقتصادها يبدأ من معالجة التوترات والنزاعات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية المتعلقة بقضيتي المكاسب التجارية الغير مشروعة نتيجة تخفيض اليوان المستمر وانتهاك حقوق الملكية التكنولوجية، بالإضافة إلى بدء تعزيز ثقة المواطن الصيني في قوة اقتصاده من خلال المحافظة على معدلات نمو اقتصادية محددة تضمن استقرار معدلات التوظيف ومستويات الرواتب، والقيام بإصلاحات حقيقية تستهدف كل من النظام المصرفي وبنية الأسواق المالية بما فيها سوق العقارات بحيث تساهم في السيطرة على المضاربات التي عادة ما تكون السبب الرئيسي في التذبذبات العشوائية، وفي ضبط نظام الظل المصرفي والذي يساهم بشكل كبير في العمليات التمويلية ذات المخاطر العالية في الصين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.