شعار قسم مدونات

"مرآة العالم".. تعرف على أضخم مشروع تكنولوجي قادم

blogs vr

تعرفت قبل سنتين على أخصائي في صناعة فيديوهات تُزاوج بين الواقعين الافتراضي والمعزز. دخل إلى مكتبي ذات يوم، وطلب مني أن أضع نظارات سوداء كبيرة لها شاشة تشبه القناع الأسود وربطها بهاتفه الجوال، نظرت عبر الشاشة فرأيت لوحة كبرى للسيدة مريم العذراء.

   

شعرت أن اللوحة تبعد عني بضعة أمتار، وفي حقيقة الأمر، كان الوصول إلى اللوحة يتطلب اجتياز المسافة مشياً على الأقدم، مع العلم أن القناع يوفر تقنية تكبير المشاهد. طلب صديقي أن امشي بحذرٍ إلى الأمام. كنت أسير داخل كاتدرائية فخمة جداً. على الجهة اليمنى وضع المشرفون على الكاتدرائية منحوتة صغيرة جدًا. مشيت خطوتين كي اقترب منها ليتسنى لي إلقاء نظرة عن قرب، فقال صديقي "انتبهي.. سيرتطم رأسك بالحائط"، وفعلاً ارتطم القناع الذي ارتديه بباب المكتب.

     

استخدم الاخصائي تقنيات تمزج الواقع الافتراضي بالواقع المعزز المتحرك، ما اتاح لي السير داخل الحيّز الرقمي الحقيقي للكاتدرائية، وبعد أن خلعت القناع أخبرني أن كل من يمتلك هاتفاً ذكياً سيسكن الواقع المعزز، لأن مستقبلنا يكمن به.

 

يعمل خبراء من "مايكروسوفت" و"غوغل" و"ماجيك ليب" على تحقيق المشروع الضخم، وحالياً تجري محاولات محدودة لصناعة نسخ رقمية لمدن كبرى من حول العالم

قبل ثلاثين عام، خَطَ العالم الأميركي دايفيد غلينتر في كتابه "مرايا العالم: أو اليوم الذي تضع البرمجة العالم في صندوق صغير" رؤيته المستقبلية للواقع الذي ستنتجه التكنولوجيا. أشار غلينتر في كتابه إلى أن ثورة الكومبيوتر ستتكلل بمشروع بشري ضخم عبر انتاج نظام حاسوبي يحتوي على صورة رقمية طبق الأصل ومفصلة للعالم الحقيقي، وسيمنح هذا المشروع، فرصة ثمينة لكل سكان الأرض بأن يتجولوا في المنظور الرقمي المشابه للمناطق التي يسكنونها وفي المنازل التي يقطنون بها.

 

مع مرور الزمن لم تتبدد رؤية غلينتر، بل تحولت إلى مُحرك رئيسي تتجه إليه الثورة الرقمية. كثيراً ما تحدث علماء الفيزياء عن وجود عالم موازٍ، يطوف في مكان ما في الكون، وتشبه تفاصيله، هيئة العالم الذي نعيش به. هذا الطموح لاكتشاف عالم موازي لم يعد مستحيلاً، ولكن بدلاً عن اكتشافه بات بناؤه قريب التحقق بفعل انهماك شركات تكنولوجية كبرى بصناعة منصات "مرآة العالم"، وتخصيص ميزانيات تقدر بمئات ملايين الدولارات لإتمامه.

 

يقوم مشروع "مرآة العالم" على ابتكار نسخة رقمية ثلاثية الأبعاد بمقاييس حقيقية لكل بلد، على هيئة توأم رقمي للمدن، والأحياء، والشوارع، وآلات. ويتطلب انشاء هذا النوع من المنصات، توفير صور حقيقية وبيانات رقمية ضخمة عن كل ما تحويه الكرة الأرضية من أشياء، من أجل صنع التوأم الرقمي للشوارع والأبنية، والمحلات التجارية، وصولاً إلى الكائنات الحيّة.

 

يعمل خبراء من "مايكروسوفت" و"غوغل" و"ماجيك ليب" على تحقيق المشروع الضخم، وحالياً تجري محاولات محدودة لصناعة نسخ رقمية لمدن كبرى من حول العالم، وسيتمكن ملايين الأشخاص حول العالم من زيارة تلك المدن والتجول فيها عن طريق الهواتف الذكية أو نظارات الواقع المعزز.

 

لشركة "غوغل" الفضل الأكبر في تسهيل بناء "مرآة العالم" من خلال "غوغل إرث"، وبرنامج "الخرائط"، إذ أن الأخير قدم نسخة رقمية دقيقة لعدد كبير من دول العالم. في نهاية عام 2018 أصدرت الشركة تقريرها السنوي عن الخرائط التي استطاعت جمعها لشوارع وأحياء أكثر من مئة دولة، ولكن التقرير كشف عن نقصٍ حاد في المعلومات عن شوارع الصين وروسيا ودول افريقية وأميركية لاتينية، كذلك واجهت الشركة عقبات أعاقت تمدد مشروعها، فالهند أصدرت قراراً رسمياً يمنعها من حفظ بيانات مدنها.

 

عندما نفتح موقع "غوغل إرث"، ونبدأ بالتجول فوق البلاد والتشعب أكثر داخل تفاصيل المدن والأحياء الصغيرة والحدائق العامة ومواقف السيارات، فإننا بذلك نتجول في نسخة مصغرة لمشروع مرآة العالم الذي سيكون بحدود عام 2025 متوفرًا بين أيدينا. وبحسب المحللين ستُشكل هذه المنصات التي مازالت في طوّر النشوء، منافسة قوية بوجه منصات مشهورة على الساحة التكنولوجية كـ “فيسبوك"، الذي يستحوذ على أكبر تكتل بشري تفاعلي، ذلك أن منصات "مرآة العالم"، هي الأولى من نوعها التي تمزج بين الرقمي والافتراضي والواقعي، وتتيح المجال لكل إنسان من خلاله هاتفه بأن يتجول على سبيل المثال في الإطار الرقمي الواقعي في شوارع بلاد لم يزرها من قبل فيتعرف على تفاصيل الأماكن من خلال اشعارات ستظهر على شاشته.

 

سيكون على مفاهيم عدة أن تستحوذ على معاني ووضعيات جديدة. في المستقبل القريب سنكون بحاجة لمعنى آخر للحقيقة وللمنطق وللإدراك.. معانٍ تناسب مستقبلاً يمزج بين عالمين حقيقيين

ولكن كيف سنعيش في مرآة العالم؟ هنالك سيناريوهات عدة ستكون متوفرة. السيناريو الأول تخيّل أنك في وسط شارع في مدينة صينية لا تعرف عنها شيئاً. ستحمل هاتفك. ستدخل إلى منصة مرآة العالم، ستفتح الكاميرا الأمامية، وتصوبها على الشارع، ستظهر النسخة الرقمية للشارع وستبدأ منصة مرآة العالم بإعطائك معلومات بيانية تفصيلية عن الشارع، كعدد سكانه، اللغة التي يتكلمون بها، وأسماء المباني المحيطة بكَ، وأسماء المطاعم وجودتها، وعن المسافة التي تفصلك عن الأشخاص المتواجدين في الشارع عينه، وفي حال ظهرت قطة على شاشتك، ستحدد المنصة فصيلتها.

 

السيناريو الثاني، تخيّل أنك متواجد في بيروت، وتريد زيارة شارع "أفيندا رودريغوس ألفيش" في مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل، سترتدي نظارات الواقع المعزز المتصلة بمنصة "مرآة العالم"، ستحدد المدينة البرازيلية، لتبدأ بالتجول بها بالأسلوب عينه للعبة "بوكيمون غو".

 

في مرآة العالم، ستتوفر جميع البيانات الرقمية وتطبيقات التواصل الاجتماعي، وذلك سيؤثر حتماً على أسواق العمل، وهنا يأتي السيناريو الثالث، تخيّل أنك تريد تغيير الهندسة الداخلية لمنزلك، ستلتقط فيديوهات له عبر نظارة الواقع المعزز، وفي الوقت عينه توفر المنصة مساحة لتبادل الخدمات التجارية على نسق منصة "لينكدن"، للتواصل مع مهندسين الذين بدورهم سيتجولون في منزلك، وسيقدمون نماذج هندسية عدة لك.

 

مرآة العالم ستضع الانسان أمام تحولات مفصلية تطال أسلوبه حياته. يتخوف محللون مما ستنتجه منصات يختلط فيها الواقع الفيزيائي مع الواقع المعزز، لجهة التغيرات الجذرية التي ستطال مفاهيم أساسية على غرار "الحقيقة" و"المنطق" و"الحس السليم" و"الحس المشترك". وإلى أن تترسخ الثورة التكنولوجية الرابعة مع مرآة العالم، لتختم بذلك البشرية حقبة الثورة الثالثة التي أطلقها "فيسبوك"، سيكون على مفاهيم عدة أن تستحوذ على معاني ووضعيات جديدة. في المستقبل القريب سنكون بحاجة لمعنى آخر للحقيقة وللمنطق وللإدراك.. معانٍ تناسب مستقبلاً يمزج بين عالمين حقيقيين، عالم بأبعاد فيزيائية وتوأمه الشبح الرقمي، فهل نحن مستعدون لمرآه العالم؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.