شعار قسم مدونات

مسلسل فريندز.. الفلسفة الرواقية في قالب بسيط وممتع

BLOGS فريندز

"كل الذين استطاعوا أن يحصلوا على الثقة التي تأتي أصلا من الساكنين معهم عاشوا ألذ عيشة لامتلاكهم الضمانة الأقوى".. الفيلسوف الرواقي ابيقور

على الرغم من توقف عرض مسلسل فريندز منذ 2004 إلا أن شعبيته لم تخمد بعد: الحياة اليومية  لمجموعة من الشباب الأمريكيين النموذجين بين شقتهم والمقهى، يتشاركون خيباتهم وأفراحهم، تنوع شخصياتهم وتعدد المواقف الهزلية في حياتهم أنتج لنا واحدا من أعظم المسلسلات التلفزيونية وأكثرها انتشارا على الإطلاق، نجاح يظهر في الأرباح التي لا زال يجني المسلسل على الرغم من مرور سنوات على انتهاء عرضه، فشركة  warner bros لا تزال تجني أرباحا سنوية تقدر بمليار دولار سنويا حسب تقارير صحفية أمريكية.
 
سأكون بجانبك، بهذه الجملة ينطق جنريك المسلسل، جملة تصف كل ما تحمله حلقات المسلسل من ايثار وتضامن بين أفراده، فكلما واجه فرد منهم مشكلة ما، إلا وأحاط به أصدقائه، يتبنون مشكلته ويسعون لحلها  في قالب هزلي وبطريقة مضحكة تظهر مدى سخافة وعبثية المشاكل مهما كبرت، بالرغم من التوجه الكوميدي للمسلسل إلا انه يخفي بين طياته دروسا وحكم حول الصداقة والعلاقات الاجتماعية في قالب لا يخلو من نسمة فلسفية..

أبيقور.. المؤسس الحقيقي لفريندز
تقاوم فلسفة ابيقور إذن التزييف الرأسمالي للأشياء والذي خلق منا مجتمعا استهلاكيا ننجذب معه للأشياء التي يعتبرها المجتمع نفيسة لكنها لا تجعلنا سعداء، فكيلوغرام من الذهب لن يرضي شخصا تائها في الصحراء بقدر قطرة من الماء

كم تبدو مسلية وحديثة فكرة جمع أصدقاءنا المفضلين في منزل واحد للهروب مؤقتا من وحشية العالم الخارجي وخطف لحظات سعادة لحظية، إلا أن الفكرة ليست وليدة اللحظة ولا حتى الماضي القريب، على الأقل قبل اختراع الأرائك، فمنذ أكثر من قرنين قبل الميلاد استطاع فيلسوف جمع أصدقاءه للعيش معا في منزل انطلقت منه أولى مفاهيم فلسفة الصداقة، لم يكن هذا الشخص سوى الفيلسوف اليوناني ابيقور الذي ولد عام 341 قبل الميلاد، اشتهر بتبنيه مذهب اللذة ولخص مفهوم الحياة في الصداقة والحرية بابتعاده عن صراعات السلطة والعمل وزرع طعامه بنفسه والتفكير والتأمل.
 

كان ابيقور يرى بأن الصداقة هي مفتاح السعادة، والعيب الوحيد أن الاصدقاء لا يلتقون بشكل كافي لذلك قرر إنشاء منزل بحديقة لكي يجتمع بشكل يومي مع أصدقاءه ويقضي معهم وقتا أكثر. ولأن الحرية كانت الهدف الأسمى لابيقور فقد قرر بمعية أصدقاءه اعتزال الحياة العادية والاستقالة من المهن والاكتفاء بالذات وبما يزرعونه في حديقتهم.

لأبيقور فلسفة خاصة في رؤيته للحياة، فهو يرى بأن الناس يقدمون تضحيات ضخمة من وقتهم وصحتهم ومتعتهم في العمل من أجل تحقيق حاجات ليست حقيقية أو ثانوية، لذلك لخص ابيقور جوهر الحياة في ثلاثة أشياء: رغبات طبيعية ولازمة كالأكل والمسكن والأصدقاء والملبس والحرية، ورغبات طبيعية غير لازمة كالأكل الباذخ والمنازل الكبيرة والخدم، ورغبات ليست طبيعية وغير ضرورية كالسلطة والشهرة، لذلك فالسعادة عند ابيقور لا تستلزم الكثير من المال، يعني هذا أننا لن نكون سعداء وسط منزلنا الفخم ونحن لا نمتلك الحرية أو الاصدقاء ولن نكون سعداء إن كنا نعمل ساعات طويلة ونحن نرتدي آخر الماركات أو ننام على وسائد مخملية ونحن نعاني من الأرق..

تقاوم فلسفة ابيقور إذن التزييف الرأسمالي للأشياء والذي خلق منا مجتمعا استهلاكيا ننجذب معه للأشياء التي يعتبرها المجتمع نفيسة لكنها لا تجعلنا سعداء، فكيلوغرام من الذهب لن يرضي شخصا تائها في الصحراء بقدر قطرة من الماء.. فلسفة ابيقور امتدت لتصل لعدة أتباع وأجيال لكنها واجهت حربا من قبل الكنيسة في القرن الخامس عشر، وقد طال الفكر الابيقوري  ليصل للعصر الحديث فأطروحة كارل ماركس للدكتوراه كانت عن ابيقور الذي كان يعتبره فيلسوفه المفضل، ولا شك أيضا أن مؤلفي مسلسل فريندز ديفيد كارن ومارتا كوفمان قد تأثرا هما الآخران بأبيقور..

مسلسل فريندز وشرارة عالم التفاهة

جميع شخصيات المسلسل شباب من الطبقة المتوسطة ولهم ميزة ما: جوي ساذج، تشاندلر ساخر، مونيكا تعاني من الوسواس القهري، فيبي تنتمي للهيبي ورايتشل محبة للتسوق وأخيرا هناك روس المثقف الرومنسي، روس يمثل الشخص المثقف المضطهد فكلما  حاول قول شيء عن دراساته أو أفكاره تتم معارضته في منتصف حديثه من طرف الآخرين، متحججين بمدى ملل حديثه أو كم هو غبي أن تكون ذكيا وأن لا أحد يهتم.

في الواقع هذا التنمر الذي يعاني منه روس دق ناقوس الخطر في العالم الغربي منذ 2004، أي العام الذي انتهى فيه المسلسل وأطلق فيسبوك لأول مرة وانتخب فيه جورج بوش لولاية ثانية وأصبح تلفزيون الواقع قوة مسيطرة على التلفزيون، وبلغة أكثر قسوة كان ذلك عام بروز عصر التفاهة وانهيار قيمة المثقفين. يقول كاتب القصص ديفيد هوبكنز في مقال بعنوان انهيار الحضارة الغربية بأن المثقفين مضطهدون دائما لكننا وصلنا لنقطة متدنية حل فيها التفاعل عبر مواقع التواصل محل الجدال الحقيقي والحوار السياسي، نحن عند نقطة غرقت فيها الصحافة في فضائح المشاهير، قد يكون الضحك المفعم بالحيوية الذي يطلقه الجمهور في الاستوديو عند كل لحظة يتم فيها قمع روس شيئا مسليا، لكن يجب التخوف من كوننا لم نفعل شيئا يكفي لتشجيع الفضول الفكري في ثقافتنا، يجب على العالم إذن أن يحمي العباقرة لأننا نحتاجهم، لا يمكننا أن نتركهم يفشلون لأجل مجتمع يحول أفراده أعينهم إلى كل كلمة يقولها هؤلاء.. روس يحتاج أصدقاء أفضل.

دفاعا عن الأنانية

في إحدى الحلقات، يحصل جوي الممثل المغمور على فرصة للظهور في برنامج تلفزيوني لجمع التبرعات لمؤسسات خيرية، فرصة اعتبرها جوي سانحة لكي تزيد من شهرته ويحصل على أدوار جيدة مستقبلا، لما سمعته رفيقته فيبي يتحدث بهذه الطريقة، عارضته بقولها إن ذلك ليس فعلا خيريا بل أنانية مطلقة لأنه شيء سيفيدك ويزيد من شهرتك باستغلال الأعمال الخيرية، جوي يرد عليها بقوله إنها لما ساعدت أخاها ذات مرة انتباها شعور بالرضا النفسي إذن فمساعدتك لأخيك فعل أناني، وبأن الأفعال الخيرية الخالية من الأنانية غير موجودة!

فيبي لم تقتنع بكلامه فحاولت القيام بعمل خيري دون أن تتولد لديها مشاعر الرضا لكي تُظهر أنها على حق وجوي مخطئ، لكنها لم تنجح ففي كل مرة تظهر لديها مشاعر طيبة تعزز قول جوي، تتحدى هذه الحلقة إذن الفكرة النمطية التي تقول بأن الفعل الأخلاقي لا يعود بالنفع على صاحبه أو أن الفعل الذي يعود عليك بالنفع ليس أخلاقيا..

الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز يقول بأن البشر بطبيعتهم أنانيين، أي أن الفرد يهتم بنفسه وليس الآخر وأي فعل إنساني ينطلق من الرغبة في الإحساس بالرضا أو الثواب والهروب من العقاب الديني. كل هذه الحِكم في مسلسل فريندز وغيرها الكثير جعلته محبوبا بين الملايين وجعلت الكثير منا تنتابهم نسمة من النوستالجيا والفرح كلما سمعوا أغنية الجنريك: سأكون هنا بجانبك عندما يبدأ هطول المطر، سأكون هنا بجانبك كأني مررت بهذا من قبل، سأكون هنا بجانبك لأنك أنت أيضا بجانبي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.