شعار قسم مدونات

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

blogs - man

الذي يدفع السجين لتحمل مرور السنوات الطوال هي النافذة الكائنة في أعلى الزنزانة، تلك التي تجلب له كل صباح مع ضوء الفجر الساطع جرعات خفيفة من الأمل تُمَنيه بالحرية وتعينه على تحمل سنين القهر وسياط الجلادين، الأمل هو الذي يدفع الغريق للتعلق بالقشة برغم علمه أنها لن تُفلح في انتشاله من غرقه المحتوم.

 

هو ذاته الذي يدفع الملايين من البؤساء على امتداد خرائط الأوطان الممزقة على احتمال واقعهم المزري والتمسك بخيوط الحياة الواهنة، هو الصوت الداخلي المُطَمئن الذي يقول لنا دائماً أن الأمور ستصبح بخير. ربما هو أيضاً الجانب الساذج من إنسانيتنا التي لا ترى الأمور على حقيقتها مهما كانت واضحة، الجزء الذي لا يؤمن بالتوقف والاستسلام، الجزء الذي يُصر دائماً على أنه لا تزال هنالك كوة في الجدار، نافذةً تنتظر منا أن نفتحها وباباً لم نطرقه بعد.

 

الأمل يشبه الكثير من الأدوية التي نشتريها من الصيدليات، إن استخدمناه بحذر وبجرعات محسوبة فهو قادر على أن يشفي الكثير من جروح واقعنا البائس

لكن "ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة؟ ما الجرم في أن يصنع لنفسه قنديلاً مزججاً وملوناً لكي يتحمل عتمة ألوانه" كما تقول رضوى عاشور، في الواقع قد لا تكون هنالك نافذة على الإطلاق، ولا حتى أبواب قابلة للطرق، لا عود خشب ولا حتى قشة في المتناول، فالآمال في مجملها ليست صادقة، وليس من شأنها أن تكون صادقة، إنما من شأننا نحن أن نُصدِّقها حتى نستمر في الحياة، فمهمة الأمل الأولى والأخيرة كما تقول السيدة نورة، ليس "أن يتحقق" ولكن أن "يدفعك أنت لكي تتحقق " أن يدفعك للاستمرار في معاركك اليومية ولكن ليس بالضرورة أن يضمن لك الانتصار فيها، فمهمته تنتهي بتحققك أنت وليس بتحقق أحلامك.

  

يكاد يكون من المستحيل أن نتخيَّل أن حياة حقيقية يمكن أن تستمر بدون أمل، كما من المستحيل أن نتخيل أن مركبة قد تسير في الشارع العام بلا وقود، الأمل فعلياً هو الوقود الذي يدفعنا للاستمرار في هذه الحياة وبدونه لسنا بشراً أسوياء، إنما مجرد روبوتات تؤدي وظيفتها في الحياة في انتظار أن ينتهي تاريخ صلاحيتها لتنتقل بعده إلى سلة قمامة أو إلى مصنع لإعادة التدوير، إنما الاتكال على الأمل لوحده ليس أمراً صحياً بأي حال، فكما أن الحياة بدونه لا تكون، فهي به لوحده لا تصلح، هل سمعتم من قبل بمن اغتالته الآمال؟! في الحقيقة كثيرون هم من سقطوا ضحايا لجرعات زائدة من الأمل، قفزوا من على الجسور، ألقوا بأجسادهم في المتوسط أو نحروا رقابهم طوعاً وغادروا من فورهم الحياة من بابها الضيق.

 

فالحقيقة المزعجة هي أن للأمل وجهاً آخر ليس شاعرياً بالمرة، وجه بملامح قاسية لا ترحم.. وجه يُسمى الخيبة تتناسب حدتها مع كم الأمل السابق لها، لذا فإن للآمال الجامحة دائماً عواقبها الوخيمة، إبراهيم نصر الله كان يقصد هذه العواقب بالذات حين قال: "وكنا على ثقةٍ بأن: ليس أقسى علينا من اليأس إلا الأمل ". نعم الأمل قد يكون أحياناً أقسى حتى من اليأس، فاليأس هو النهاية، أما الأمل فهناك على الجانب الآخر منه دائماً ما تقف الخيبة بالانتظار، لتستقبل الفارِّين من ركام أحلامهم المنكسرة، تقف حاملةً معها كل وسائل التعذيب النفسية لِتُعاقب المساكين على كل جرعة أمل تَجرَّعُوها بجرعات مضاعفة من الآلام التي لا تنتهي.

 

لربما هو أجمل الأشياء في الوجود وأكثرها سوءاً على الإطلاق في آن واحد، هذا الأمل الذي نتحدث عنه هو ذاته الذي قاد الشعب الفرنسي لخوض نزال في معركة أشبه بالمستحيلة ضد حكامهم الإقطاعيين وكنيستهم المتسلطة آنذاك، قادهم هذا الأمل – بالإخاء والحرية – لإخراج أوروبا من قعر الظلومات الذي كانت تقبع فيه إلى رحاب الحرية والازدهار.. ليس الثورة الفرنسية فحسب بل الربيع العربي وما يحدث في السودان اليوم، وكل حركات التغيير التي شهدها العالم على مر تاريخه القديم والحديث كان الأمل فيها بمثابة الشمعة التي أضاءت لأجلها الطريق والوقود الذي ضمن لها الاستمرار.

 

 لكن وعلى النقيض من ذلك، فكل ظالم وطاغية لا يمكن له أن يستمر دون أن يُلقي لشعبه بين حين وآخر جرعات من الأمل الكاذب، أمل يعدهم فيه بأن الأمور ستتحسن دون أي فعل منهم ولا إرادة سوى الصبر والاحتمال. ذات الأمل الذي يقود إلى التمرد والثورة، يمكن أن يقود كذلك لاحتمال الطغيان سلباً والصبر والإذعان أمام الظلمة، الجرعة فقط هي التي تختلف، جرعة كبيرة ستقود إلى ثورة وأخرى صغيرة ستعمل كمخدر يدفع الناس إلى الصبر والتحمل.

 

مما سبق فالأمل يشبه الكثير من الأدوية التي نشتريها من الصيدليات، إن استخدمناه بحذر وبجرعات محسوبة فهو قادر على أن يشفي الكثير من جروح واقعنا البائس، أما الإفراط منه والاستناد عليه وحده فلن يقودنا سوى للمزيد من الخيبات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.