شعار قسم مدونات

هل يعد انتشار الكُتّاب ظاهرة مقلقة؟

BLOGS كتابة

يتردد كثيرًا بين أوساط الكُتّاب -وخصوصًا الشعراء والروائيين- أنّ نسبة من يكتب عمومًا آخذة بالارتفاع، حتى أنّها أصبحت أكثر من نسبة القراء، فلا نجلس في أيّ ندوة، أو مقهى، حتى يأخذ هذا الموضوع نصيبًا كبيرًا من الوقت.

كما تعج مواقع التواصل الاجتماعي بصفحات باسم الشاعر (س)، والكاتب (ص)، وما أن ندخل صفحاتهم حتى نرى العجب العجاب من الذي لا يقبله نحوٌ ولا صرف، فالفاعل يُنصَب، والخبر يُجَرّ، وقد يختفي من الجملة أحيانًا، والممنوع من الصرف يُجازُ له فيصرَف، وكأنّها لغة أخرى غير تلك العربية التي نعرفها. ومن يتخطى مرحلة اللغة بنجاح يقع في مشاكل تقنية تخص صنعة العمل الأدبي نفسها، فنرى قصائدًا لا تُقرُّ وزنًا ولا قافية، أو حروفًا تُطوَّع لتصبح رويًا، بغض النظر إن كان يجوز لها ذلك أو لا، مثل "الهاء" و"الألف" التي يقر تاريخ الشعر العربي منذ نشأته المعلومة لهما بأنّهما حرفا وصل وخروج، ولا يصلحان رويًا إلّا في حالات قليلة ومعينة. ثمّ يأتي مصدر رسمي ويُصرّح بتضاعف أعداد دور النشر في معرضٍ ما للكتاب، وهي دور نشر تقبل ما لا يُقبَل، بأخطائه وسقطاته، ولم لا؟ فالكاتب يتحمل التكاليف، والرقيب غارق في سباته الطويل، و"الحداثة" تتحمل كلّ الهفوات وتسميها "سريالية".

لا ينبغي للكاتب الحكم على المستوى العام للثقافة بالتردي لأنّ الكثير من النصوص لا ترقى لمستوى مناسب، فهي طالما كانت كذلك عبر التاريخ والجغرافيا، ولكن لم يصل إلينا منها إلّا ذلك الذي يجب أن يصل

إنّ الشخصية المعاصرة مُشبَعة بالوهم على أصعدة عدة، ربما يكون أخطرها وهمي الثقافة والحرية، ووهم الثقافة هو الذي يشجع الأفراد على بدء الكتابة، فهم يتصورون أنّهم يملكون ما يجب أن يُكتَب ويُنشَر وينتفع به الناس، أمّا وهم الحرية فهو المسؤول عن إقناع أولئك الأفراد أنّ قوانين الكتابة ليست إلّا قيودًا تحد من إبداعهم، وهم -بطبيعة الحال- أنضج من تلك القيود، ولديهم قوانينهم الخاصة في الكتابة، ومن أجل ذلك لا يتوقفون عن استخدام تلك الحجة؛ حجة أنّ التجديد سمة كل شيء، ويتناسوا -وربما لا يعرفون أساسًا- أنّ المجددين هضموا السابق كلّه، ثم أضافوا رؤيتهم الخاصة، والمبنية على منطق وفكر وحجة؛ منطق أكبر من أنّهم قرروا الكتابة واستسهلوا الأمر كما يفعل "المجددون" الحاليون، وفكر مبني على قراءات وحوارات ذات قيمة، وحجة لها ما يدعمها من العلم.

وأمام كل هذه المعطيات، يشعر الكتاب الحقيقيون بحالة من انعدام الثقافة، والغيرة على اللغة والأدب، وضعف مستوى الكتاب أنفسهم، ولكن هل يمثل كلُّ هذا مشكلة تستدعي الاهتمام فعلًا؟ إنّ خروج الكاتب من حالة الإحباط والتفكير العاطفي، وإتْباعِ هذا الخروج بالتأنّي والتفكير خارج إطار الزمن، يوصِل لنتيجة مفادها أنّ التاريخ حكمٌ منصف، ولا يعرف للأدب والعلم سقطات، وأنّ من يسجل اسمه في تاريخ الكُتاب لا بدَّ له أن يحفر في ما هو أكثر قساوة من الصخر، وأنّ الناجح في هذا المجال ليس له إلّا امتلاك الكثير من المقومات العلمية والعقلية والشخصية.

وبناءً على ذلك، لا ينبغي للكاتب الحكم على المستوى العام للثقافة بالتردي لأنّ الكثير من النصوص لا ترقى لمستوى مناسب، فهي طالما كانت كذلك عبر التاريخ والجغرافيا، ولكن لم يصل إلينا منها إلّا ذلك الذي يجب أن يصل، أمّا الباقي فكان تجربة شخصية لم يُعرْها التاريخ اهتمامًا، وحذفها من كل صفحاته.

ويجب أن ننتبه إلى أنّ الكاتب -بطبيعة الحال- يختلط ويتواصل مع أشخاص من الوسط الثقافي، سواءً في العالم الحقيقي أو الافتراضي، لذلك يُخيَّل إليه أنّ كثيرًا من الناس أصبحوا كُتّابًا، وهو في ذلك كبطل تلك القصة الشعبية الذي يصوّر لأهله مدينةً زارها بأنّها عامرة بالتقوى، في حين صوَّر زائر آخر لنفس المدينة بأنّها تمتلئ بالفجور، وهذا له ما يبرره؛ فالأول كان من رواد المساجد، والثاني لم يعرف إلّا طريق الملاهي.

عزيزي الكاتب، قم بتوفير طاقتك النفسية في تطوير مهاراتك، واحفظ لنفسك مكانًا بين الكتاب الخالدين، واعلم ببساطة أنّ الكثير ممّا تراه ليس إلّا ظاهرة سيطرحها الآجل، وأنّ عصرك ليس مختلفًا عن أكثر العصور مثالية وعلمًا، وتيقّن أنّ الكثير من عمالقة الأدب لم يأتوا بعد، وليس هناك ما يمنع من ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.