شعار قسم مدونات

أزرق أبيض أحمر.. ألوان كيسلوفسكي التي حكت قصة!

blogs كيسلوفسكي

"في أفلامي، الأشياء نادرا ما تقال بشكل مباشر وصريح"
المخرج البولندي كريستوف كيسلوفسكي

عندما اختار قادة الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ألوان علمهم الجديد، ارادوه معبرا عن قيم ثورتهم: الحرية، المساواة، الإخاء، غير أن لا أحد من الثوار آنذاك كان يتوقع أن الألوان المعبرة عن قيم الليبرالية الكلاسيكية ستصبح علامة فارقة في السينما الأوروبية بعد قرنين من الزمن، ذلك بعد أن اقترض المخرج البولندي كيسلوفسكي هذه الرموز لصنع واحدة من أهم الثلاثيات السينمائية على مر التاريخ والتي تركت ما يمكن وصفه بـ"أثر الفراشة" على السينما في العالم.. أثر الفراشة الذي قال عنه درويش أنه لا يزول وله جاذبية غامضة، يستدرج المعنى ويرحل حين يتضح السبيل..

لقد استطاع كيسلوفسكي خلق ثورة فرنسية جديدة على أبناء الزمن المعاصر من خلال شخصيات أفلامه الثلاثة: جولي، كارول وفالنتين مستعينا في ذلك بأسلوب الكاتب التشيكي كونديرا في كتاباته: تعدد الأصوات وتشابك السرد الذي يبنى على مهل بشكل قد يصيب المشاهد المتعجل بالملل، وبالغوص في أعماق الروح الإنسانية بتعقيداتها وغرابتها، طارحا بذلك أسئلة في غاية الأهمية حول الوجود والحياة يمتزج فيها اللاهوتي بالوجودي دون البحث عن أجوبة حاسمة، مؤكدا على أن الفن ليس بالضرورة وسيلة للإجابة بقدر ما هو مساهمة الفنان لمعضلاته مع شريحة من الجمهور لها نفس اهتماماته فاتحا بذلك باب التأويلات المنبثقة من الذات على مصراعيه.

أزرق
في أزرق، يحاول المخرج إيصال فكرة مفادها أننا نصبح أحرارا بالفعل حين نتخطى ألم الفقد الذي يرافق الموت، وهذا هو أزرق الحرية

الأزرق يعني الحرية، الكآبة، الحزن، التعب، القرف.. الأزرق لون الضغط والظروف القاسية والحظ السيء، الأزرق هو اللون الذي اكتسى به الفيلم الأول في ثلاثية كيسلوفسكي، والذي يحكي قصة سيدة تخسر كل شيء في رمشة عين، بعد الحادث الذي أدى لمقتل زوجها الموسيقي وابنتها، فتحاول بكل الطرق الهروب من شبح الواقع المر ولو بالالتجاء للانتحار.

في أزرق، تألقت الممثلة الفرنسية الشهيرة جولييت بينوش في نقل المعاناة المتخفية في هذا اللون البريء، بمشاعره المتداخلة من فرح وحزن وكره ونقاء وإيمان وضياع، وبذكرياته الظاهرة في ثريا زرقاء تمثل ذكرى الطفلة والزوج، وبحريته المتمثلة في الضوء الأزرق الذي يُسلط على البطلة في المستشفى بعد فشل محاولتها في الانتحار، هذا الضوء بداية لحياة جديدة وإعادة ولادة بعد الدمار.

اللون الأزرق يحيط بالفيلم من كل جوانبه، فنجح المخرج في ذلك باستغلال كل رموز هذا اللون عبر ربطه بالأحزان واليأس والاستسلام تارة وربطه بالاستمرار والأمل والحرية تارة أخرى. في متابعتهم لرجوع جولي للحياة، يتعرض المتفرجون للتأثيرات الصوتية والبصرية التي تعتمد على انعكاسات المرايا وتدرج اللون الأزرق والموسيقى، كل هذه العناصر تصف بدقة مشاعر البطلة المتذبذبة والتي تتغير شيئا فشيء أثناء بحثها عن حياة جديدة، يقول نيتشه بأن الشياطين تسكن التفاصيل، وقد أبدع  كيسلوفسكي في استحضار شياطينه بالتركيز على التفاصيل والصدف، فالعلاقات في هذا الفيلم كما كل أفلام الثلاثية محكومة ومدفوعة بسلسلة من المصادفات واللقاءات العرضية، حيت مصائر ودروب الشخصيات تتقاطع وتنفصل عبر أحداث بسيطة تكبر فيما بعد. في أزرق، يحاول المخرج إيصال فكرة مفادها أننا نصبح أحرارا بالفعل حين نتخطى ألم الفقد الذي يرافق الموت، وهذا هو أزرق الحرية.

أبيض

الأبيض هو المرح، التحرر، هو الجانب الذي يستحق الحياة والمعاناة التي تتلون بلون البهجة، أبيض وهو الجزء الثاني من الثلاثية كوميديا تخريبية تدور حول أزمة يمر بها زواج بولندي فرنسي، ويمكن إسقاطه على استعارة أكبر هي العلاقة بين فرنسا وبولندا في ذلك الوقت "1994". الأبيض في علم فرنسا يعني المساواة، وفي الفيلم تترك الزوجة الفرنسية زوجها الحلاق البولندي كارول بعد أن عانى وتخلى عن كل شيء في سبيل الحب والاستقرار مع زوجته في باريس، وعندما يعود إلى موطنه بولندا، يحاول جني المال، الكثير منه.. كي يتساوى معها وينتقم، كأن المساواة في الألم ربما تكون نقطة الانطلاق لحياة مغايرة.

كارول في هذا الفيلم يهوي للحضيض لكنه لا ينزلق للعدم، ينجح في تجاوز الجحيم اليومي دون أن يحترق، عبر رماد الفشل واليأس والخيبات ينبعث من جديد ليتسلق درجات النجاح، ومن ظلام أنفاق مترو باريس إلى فضاء وطنه بولندا الشاسع، الحب نقطة قوته وضعفه في نفس الوقت، الحب الذي أهانه وأضعفه هو نفسه الذي طهره وأعاده للحياة من جديد.

الأفلام الثلاث تتكامل فيما بعضها ولا يجب مشاهدة جزء دون الآخر بالرغم من انفصال القصص إلا أن هناك شعرة رقيقة تربط بينهم

تراود كارول طيلة أحداث الفيلم صورة لزوجته مرتدية فستان الزفاف الأبيض، الصورة مشبعة بالبياض الذي يمثل الفرح والبراءة والذاكرة أيضا، استحضاره للصورة هو تمسك بالحلم في أكثر تجلياته إشراقا وبراءة. تبدأ سينماتوغرافية الفيلم بغياب اللون الأبيض في النصف الأول من الفيلم لكنه يظهر تدريجيا بعد استقرار كارول في موطنه مرة أخرى لكن بشكل خافت لأن كارول لا يحس بالمساواة بعد ويتصاعد ليصل للذروة بعد نجاح مخططه وقدوم حبيبته لبولندا فيشعر بالمساواة أخيرا لتتحول الشاشة للون الأبيض.. وفي لحظة مفصلية على فراش الحب نرى لأول مرة الأبيض المشع وفي تلك اللحظة بالضبط، يشعر كارول بالمساواة الكاملة.

أحمر

الأحمر، شغف، شغب، تأمل، شهوة وإيخاء.. في الجزء الأخير للثلاثية نكتشف حياة عارضة الأزياء فالنتين التي تعيش وحدة قاتلة بسبب بُعد حبيبها ومعاملته السيئة لها، ودائما عبر الصدفة تتعرف على القاضي المتقاعد الذي صدمت كلبته، والذي يعيش هو الآخر وحيدا، وفي خط موازي للأحداث نتعرف على طالب القانون أوجست الذي يكتشف خيانة حبيبته فيمر بأزمة عاطفية، وبالصدفة تكتشف فالنتاين أن القاضي يتجسس على جيرانه، بالموازاة مع نفورها من هذا الاكتشاف يتولد لديها انجذاب خفي لهذا الرجل الذي يزعم أنه قادر على العيش بدون عاطفة الحب والذي يبرر تنصته على الآخرين بمحاولته فهم البشر وفهم الحقيقة.

وفي تزايد الألفة بين القاضي وعارضة الأزياء تطلب منه أن يحكي لها قصته مع الحب والتي بالصدفة مرة أخرى تشابه قصة أوجست الطالب، كيسلوفسكي بهذا الربط تلاعب بالزمن والمكان ليوصل فكرة أن اوجست هو صورة القاضي في شبابه، والخيانة التي تعرض لها  تؤكد على التماثلات بين اوجست والقاضي من خلال عدة نقط مشتركة: دراسة القانون، الخيانة، اجتياز امتحان القبول بصدفة.. عندما يرمي اوجست الكتاب فهو يقع مفتوحا على الصفحة التي تحتوي على الإجابة في امتحان القبول.. نفس الحادثة التي رواها القاضي عن شبابه. ورغم التقارب الجغرافي بين اوجست وفالنتاين -جيران- فهما لا يلتقيان أبدا ولا أحد يلفت نظر الآخر، إن المخرج يخدعنا من خلال تهيئتنا لالتقائهما المحتوم لكنه يقوم بتخريب ذلك ويوجهنا لما هو أهم وأعمق عبر التركيز بعين نقدية على علاقات الأفراد والتعايش مع مصائرهم بنفس درجة قلقهم في قالب من الإخاء..

تقوم ثلاثية كيسلوفسكي على إعطاء المتلقي حرية الاختيار ويتساءل في أفلامه عن سبب قيام المخرجين بسلب قدرتنا على الاختيار رغم أن الحياة تعطينا حرية الاختيار، كيسلوفسكي تجاوز المعاني الواضحة لألوانه بالرغم من إظهار هذا المعنى بشكل طفيف، بل توسع في طرح الأسئلة، الأفلام الثلاث تتكامل فيما بعضها ولا يجب مشاهدة جزء دون الآخر بالرغم من انفصال القصص إلا أن هناك شعرة رقيقة تربط بينهم تتمثل ظاهريا في ظهور بعض شخصيات الجزء السابق في الجزء التالي وتكرار لقطة سيدة عجوز تحاول إلقاء زجاجة في سلة المهملات وباطنيا ترتبط  في طرح الأسئلة.. الكثير من الأسئلة دون البحث عن أجوبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.