شعار قسم مدونات

أن تكون الـ "كومبارس" في حكايتك.. عن حتمية الموت ووهم المكانة

blogs الموت

بينما يهيلون التراب على وجهك الوسيم سيتحدثون عن صعوبة الحياة وعن ذلك الدولار اللعين الذي بلغ المائة وخمسين جنيهاً، ربما سيُجري أحدهم مكالمة هاتفية من أمام قبرك يطلب فيها من زوجته أن تُحضِّر طعام الغداء لأنه جائع ومرهق، هناك على جانب المقبرة مجموعة من المراهقين يتبادلون النكات والابتسامات الصغيرة وهم في طريقهم للمغادرة، تتعالى أصواتهم بالحديث عن دوري أبطال أوروبا وعن هزيمة ريال مدريد الأخيرة في الدوري، ربما سيَذكُرك أحدهم عَرَضَاً فتعم لحظات من الصمت وبعدها يواصلون الحديث ويواصلون الحياة.

 

نعم يا عزيزي سيواصلون الحياة، لن تحدث أي معجزة لحظة موتك ومغادرتك لعالم الأحياء، لن تتوقف الشمس عن الشروق صبيحة وفاتك، لن تعلن الحكومة حداداً وطنياً علي روحك الغالية، الجامعة ستستمر بدونك، رئيسك في العمل سريعاً سيجد بديلاً عنك دائرة صغيرة من البشر ستتأثر فعلياً بموتك ­ستبكيك دهراً ومن ثم ستواصل هي الأخرى في حياتها وتنساك. أشياء كثيرة ستتركها خلفك، اعتذارات مؤجلة، أعمال غير منجزة، اعترافات منعك منها وهم المكانة وبالتأكيد أحلام كثيرة لم يسعفك الوقت لبلوغها فالموت لا يستأذن أحداً في القدوم لنزع الروح وإنها الحكاية لست عرافاً ولا منجماً لأتنبأ بتفاصيل موتك أعلاه، إنما هذا ما يحدث وسيحدث للجميع، هذا هو المصير الحتمي الذي تتجاهله وترفض أن تقر به، لكن في النهاية لا الرفض ولا التجاهل سيمنعه من الوقوع.

 

تحطم مركزية الذات المتوهمة هذه ربما تطغى حتى على حقيقة الموت وحتميته، حقيقة أننا نعيش بالمحاذاة من هذا الخطر المترصد لنا في كل لحظة

"ذات يوم تكون حياة. رجل، على سبيل المثال، في أفضل صحة وليس لديه أي تاريخ مرضي، ولا مسناً حتى كل شئ يمضي في حياته مثلما كان ومثلما سيكون دوماً. ينتقل من يوم إلى التالي متصرفاً في شؤونه الخاصة حالماً بالحياة التي تنتظره ثم فجأة يكون موت ولا تفسح الفجائية التي يحدث فيها ذلك أي مجالاً للتفكير أو للمواساة لا تترك مع الموت سوى الحقيقة المحتومة لفنائنا الشخصي" هكذا يحكي بول أوستر عن حقيقة الموت الصادمة التي تعجز عقولنا عن تقبلها برغم إدراكنا لحتميتها، أن يموت أحدهم هكذا دون أيما مقدمات مرضية أو إرهاصات عمرية تجعل من موته متوقعاً، تكون حينها الفجيعة مضاعفة والألم غير محتمل.

 

هذا عن الآخرين، أما عن فنائنا الشخصي فالأمر أكثر تعقيداً، في الحقيقة إننا لا نجرؤ حتى على التفكير في ذلك، وكأن تجنب الحديث عن الموت وإبقائه بعيداً عن متناول التفكير والتنظير سيعيقه من أن يفتك بنا، لذلك دائماً ما يصيبنا الهلع والخوف عندما ينهار هذا الوهم أمام مشهد وفاة شخص قريب منا أو مماثل لنا عمرياً، ذلك يثير فينا حالة من الفزع الصامت ويوقظ في ضمائرنا الحقيقة الكامنة التي تحجبها عنا الحياة بروتينها اليومي وتفاصيلها المقيتة التي لا تنتهي، وهي أننا لا نملك صك مختوم من عزرائيل يضمن لنا البقاء على قيد الحياة ، وأننا لسنا محصنين تجاه الموت الذي يخطئنا كل يوم ليصيب آلاف البشر ممن حولنا.

 

المشكلة هي أننا دائماً ما ننظر لحياتنا الشخصية وكأنها قطعة من رواية كلاسيكية نحن أبطالها المفترضين  وكما هو الحال في كل راوية فإن البطل هو الشخصية التي تدور حولها كل أحداث الحكاية، هو ذلك الخارق الذي لا يموت أو على الأقل موته سيشكل حداً فاصلاً في الرواية تنتهي عنده كل أحداثها  لكن الحقيقة الواضحة جداً أن الحياة ليست متوقفة علينا كما هو الحال في الروايات الأدبية، وأننا في الحقيقة قد لا نعدو كوننا مجرد "كومبارس" ذو دور تافه يلعبه في حكاية ما، حياته أصلاً غير ملاحظة بالنسبة للعالم وكذا موته سيكون غير مؤثر.

 

تحطم مركزية الذات المتوهمة هذه ربما تطغى حتى على حقيقة الموت وحتميته، حقيقة أننا نعيش بالمحاذاة من هذا الخطر المترصد لنا في كل لحظة، لكن ويا للمفارقة وبرغم ذلك تظل أولوياتنا في الحياة تحددها مجموعة من الخيالات المتوهمة التي لا تتضمن الموت كـ قدر نهائي وحقيقة لا يجدي معها التجاهل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.