الرّافعي والعقاد.. مِن الصداقة إلى السَّفُوُد!

"إنّه لَيتفق لِهذا الكاتب من أساليب البيانِ ما لا يتفقُ مِثلُه لكاتب من كُتّاب العربية في صَدر أيامها"

إعلان

(العقاد، سنة 1917)
   

ذلك كان رأيُ العقادِ في أدب الرافعي، قبل بِضع عشرة سنة من خصومة هي الأعنف والأشد في تاريخ الأدب العربي، خصومةٍ كان طرفاها قطبي الأدب والفكر آنذاك، فهذا هو الرّافعي مُعجزة الأدب، ونابغة العرب، الذي لم يترك كاتبًا إلا ونازله في باب النقد عنيفًا غير مُستمهلٍ -كمعركته مع طه حسين التي كتبنا عنها في مقال سابق- فارسٌ، كانت له طلائع جليلة في ساحات اللغة والدفاع عن الدين، فمُذ نشأته اعتاد الوقوف في أرض المعركة، يستل قلمَه، ليقسمَ به ظهرَ هذا، ويقطع به لسانَ ذاك، كاتبٌ نشأت بينه وبين العربية أواصر بلا نهاية، فكانت بلاغته الفريدة، وأساليبه الجزلة العظيمة، علامة مُضيئة في سطور اللغة.
   
أما الثاني فهو كاتب لا يَخفى اسمه على أحدٍ -صغيرًا كان أو كبيرا -العقاد.. ذلك الكاتب الذي تحدى الظروف أصعبها، وواجه الصِعاب أشدّها، فنزل إلى رغبته التي لم يوفرها له التعليم، فقرأ كمسافرِ بلا مَقصد، وتثقف مُستبحرًا هنا وهناك، لم يترك بابًا للثقافة إلا وطرقه. العقاد، كاتبُ الوفد الأول، ورفيق سعد باشا زغلول، الذي تحبه الجماهير نهرًا، وتمجدُه الصُحُف بطلًا، ويمتدحه الكتاب ليل نهار، فتُرى ما الذي جعل اثنين بهذه المواصفات يختصمان؟
   

شرارة المعركة
إعلان

بدأت المَعركة مُنذ صدور كتاب "الديوان" للعقاد والمازني، والذي تناول فيه العقاد الرافعي نقدًا واسعًا، واستؤنفت المعركة بصدور كتاب "إعجاز القرآن" للرافعي، الذي سبق وأن امتدحه سعد باشا زغلول في "مسجد وصيف" في الأول من شهر نوفمبر، عام تسعمائة وستة وعشرين بعد الألف إذ يقول عنه: "كأنّه تنزيلٌ من التنزيل، أو قَبسٌ من نور الذكر الحكيم". ولا شك أن هذا القول قد أشعل المُوجدة في قلب العقاد تجاه الرّافعي لاسيما وأنّه كاتب الوفد الأول، وله على سعد مكارم كثيرة.
   
وحينما التقى الرّافعي العقاد صُدفة، في مقر المُقتطف، كان العقاد على غير طبيعته -مُتجهم الوجه عَبوسًا- ولم يلبس الرافعي أن ينهي سؤاله عن رأيه في الكتاب، حتى فتح العقاد نارًا على الرافعي أشعلت بينهما الصراع الدائم، شكك العقاد في الكتاب وامتد حديثه ليطول القرآن ذاته وإعجازه، حيث دار جزء من الموقف على هذا النحو كما يرويه العريان في كتابه "حياة الرّافعي". قال الرافعي للعقاد، وكان الحديث يدور بينهما على الورق لأن الرافعي ضعيف السمع: "أنت تجحد فضل كتابي، فهل تراك أحسن رأيًا من سعد؟" قال العقاد: "وما سعد وما رأي سعد؟" قال الرّافعي، وقد قبض يده على ورقة العقاد: "أفتراك تصرح برأيك هذا في سعد، وأنت تأكل الخبز في مدحه، والتعلق بذكراه!" رد العقاد: " ما لك أنت وسعد! إن سعدًا لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه، ومزوره، ثم نحلته إياه لتصدر به كتابك فيروج عند الشعب." ومن هُنا ثارت نفس الرّافعي التي لم تكُن ترضخ لمثل هذا إذ يقول الرافعي عن نفسه: "إنّه يُخيل إليّ دائمًا أنّي رسولٌ لغوي بُعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبدًا في موقف الجيش تحت السلاح".

 

الأديب عباس محمود العقاد (1889-1964م) (الجزيرة)

 

العقاد يُسدد
إعلان

أطلق العقاد رأيه في الرّافعي فقال في الجزء الثاني من كتابه الديوان: "مصطفى أفندي الرافعي، رجلٌ ضيق الفكر، مُدرع الوجه، يركب رأسه مراكبًا يتريث دونها الحصفاء أحيانًا، وكثيرون ما يُخطئون السداد بتريثهم وطول أناتهم". وأتبع أيضًا في الفصل ذاته قائلًا: "إيه يا خفافيش الأدب: أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم، السوط في اليد وجلودكم لمثل هذا الصوت خُلقت، وسنفرغ لكم أيها الثقلان". فكان ذلك أدعى أن يجعل الرافعي يقرر وضع العقاد على السفود، ليظهر مطلع يوليو عام تسعمائة وتسعة وعشرين بعد الألف، أضف إلى ذلك اقتراب العقاد من مي زيادة مُلهمة الرافعي الأولى.
 

الرّافعي يضع العقاد على السفود

كتب الرّافعي مجموعة مقالات نقدية لاذعة، جرد فيها العقاد من كل عظيم وألبسه كل مهترئ لا يستر، فألصق معظم أعماله بالسرقة الأدبية منها ما يقول الرافعي في مقاله "العقاد اللص" الذي نُشر في مجلة العصور عدد شهر نوفمبر عام ألف وتسعمائة وتسعة وعشرين بعد الألف:

إعلان

 

"في الثامن والعشرين من أغسطس من سنة تسعمائة وتسعة وعشرين بعد الألف صدرت جريدة "الحال الأسبوعية" في القاهرة وفيها مقال عنوانه "لو..! تأثريها في تاريخ العالم" وفي الثاني من سبتمبر، صدرت مجلة "الجديد" مُفتتحة بالمقال هذا عنوانه "لو" للكاتب القدير الأستاذ عباس محمود العقاد، وكلتا المقالتين مترجمة عن الأستاذ "هريتشو" مدرس التاريخ في جامعة لندن نقلًا عن مجلة "الأوتلاين" الإنجليزية. غير أن اللص الجبار، زعم لنفسه الشركة في علم أستاذ التاريخ، فساق الكتابة في أسلوب يُوهم القارئ أنه هو صاحب البحث ومخترع العنوان، وأنه لم يأخذ من المؤرخ إلا ما يأخذه من "يفك قرشين"، يعطى بهما قطعة من الفضة، هي وهما سواء، فما أخذ إلا بقدر ما أعطى، وكان ذا مالٍ في قرشيه ولم يكن لصًا وهكذا يزيد العقاد على لصوص الأدب والكتابة، بما فيه من هذه الوقاحة العلمية الثقيلة التي هي سلاحه في كل ميادينه".

 
وغيره من النقد الصعب الشديد الذي لا يُحتمل، فقد تتبع الرافعي شعر العقاد معظمه بالنقد البلاغي واللغوي بغير رحمة، فقد فكك معظم أعماله، وأطاح بالعقاد أرضًا في هذا الكتاب. منها ما يقول في نقد أحد أبياته: "وختام قصيدة المراحيضي -لقب أطلقه الرافعي على العقاد سخرية- تغنّوا بما شاءوا، وغنيتُ بالطلى وكل يغني في الأنام بليلاه وكتب (الطلى) بالياء وهي بالألف لا غير، إذ هي بالياء معناها الرقاب، والسرقة في هذا البيت ظاهرة من قولهم: "كل يغني على ليلاه"، ولكن يبقى أن التي انقلبت فرسًا أو براقًا من قبل، انقلبت هنا امرأة اسمها (ليلى). ألا يغور هذا العقاد الآن والقراء جميعا يبصقون على شعره؟"

إعلان

 

الأديب مصطفى صادق الرافعي (1880-1937م) (الجزيرة)

 

إعلان
ثورة بعد هدوء

ثم هدأت المعركة بين الرافعي والعقاد فترة إلى أن نُشر ديوان العقاد "وحي الأربعين" الذي لم يكن الرافعي يرغب قراءته إلا أنه ذات مساء كان جالسًا مع أحد أصدقائه، فسأله: "أي كتاب تقرأ هذه الأيام؟" فأجاب غامزًا: "وحي الأربعين". فعزم الرافعي على قراءته ونقده بعد حين، وطلب من صديقه أن يشتريه لأجله، لأنه قد عزم منذ زمن ألا يدفع قرشًا في كتب العقاد، فقرأه الرافعي، وأملى مقاله النقدي عنه للعريان، ونشره الرافعي، ورد عليه العقاد مُوبخًا، في مقال بعنوان "أصنام الأدب" ينتقص فيه من الرافعي وإسماعيل مظهر، ناشر كتاب "على السفود"، غير أن العقاد لم يرد على معظم ما عابه به الرافعي، واستعاض عن الرد بالسب والشتم، ودخل للرافعي من مكان لم يكُن يحسبه، فطعن في وطنيته، وأوهم قُرّاءه أن الرافعي ما كان لينتقده لولا أنه العقاد كاتب الوفد السياسي، كان العقاد كاتب بعقل سياسي يحمل المفاجآت دائمًا. فكتبه الرّافعي مقالًا شديدًا، عنيفًا غرضه السخرية والإيلام وقطع السبيل وتدعيم الدليل في نقده.
 

انسحاب العقاد

ثم يرد العقاد، ليُعلن انسحابه من المعركة شاكرًا للذين أيدوه، فكان النصر للرافعي عند طائفة، لكنه خسر عطف الآلاف من مُحبي العقاد. غير أنّ الرّافعي لم يترك العقاد وشأنه وتحين الفرصة ليرد له كيده بنفس خبثه السياسي وعندما خرج العقاد من الوفد وكتب فيه ناقدًا، استغل الرافعي الموقف وكتب في العقاد مقالًا بعنوان "أحمق الدولة" فكان المقال ذا رنينٍ وصدى.
 
هكذا كانت المعركة الأعنف في تاريخ الأدب العربي، رغم شدتها إلا إنها توضح كيف كان الكتاب على علم وبصيرة في هذه الحقبة الأدبية الفريدة التي لن تتكرر، يغوصون في بحار اللغة، ويضعون بصمتهم الفريدة، فتكون القصص الممتعة، والاستفادة العظيمة. رحم الله الأديبين -قبسي النور الأدبي- وبصرنا بعلمهم ما ينفعنا.

  

 ———————————————————————————–

 
المصادر
1. كتاب "الديوان" الجزء الأول والثانٍ.
2.كتاب "على السفود"
3.كتاب "إعجاز القرآن"
4.كتاب "حياة الرافعي"
5.مجلة العصور. (أرشيف)
6.مجلة البلاغ. (أرشيف)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان