شعار قسم مدونات

العمارة ملتقى العلوم والفنون

blogs - engineering
هذه الدراسة محاولة لتسليط الضوء على تفاعل العمارة باعتبارها فناً مع الفنون الأخرى من جهة ومع العلوم باعتبارها علماً من جهة أخرى.

تمهيد:
تعريف العمارة: العمارة نتاج فني وظيفي، جاء كتلبية لاحتياجات الإنسان في البداية، فكانت العمارة في بدايتها وظيفية، ومع مرور الزمن وتفتح الوعي الجمالي عند الإنسان واعتماد مبدأ الاختيار والمقارنة تطورت العمارة لتصبح ذات طابع فني.

المعمار الناجح يجب أن يكون ذا إطلاع كافٍ على مختلف العلوم والفنون التي تتداخل أو تؤثر في مجالات التفكير والتفعيل المعماري.

الإنسان القديم بنى ما يمكن أن نسميه المسكن الأوّل – بعد سكن الكهوف والمغاور – لتحقيق منافع ضرورية له: كتأمين ملجأ يحميه من الحيوانات المفترسة وعوامل الطبيعة القاسية (برد – رياح – مطر) إلى هنا العمارة وظيفية تفتقر صفة الجمال، وعندما بدأ الإنسان يفكر: أيهما أجمل أنّ تكون فتحة السقف دائرية أم مربعة، السقف مائل أم مستوي، القاطع هنا أجمل أم هناك، مع بداية هذا التفكير يمكن أن نطلق صفة الفن على العمارة.

والعمارة ليست فناً خالصاً. بمعنى آخر العمارة لا تخضع لنظرية الفن للفن، ليست فناً يهدف إلى الإمتاع فقط، ليست كالموسيقى أو النحت أو التصوير، بل إنّ العمارة فن تطبيقي يبحث ويجمع ويوظف آخر ما توصلت إليه العلوم والفنون المعاصرة.

والمعمار الناجح يجب أن يكون ذا إطلاع كافٍ على مختلف العلوم والفنون التي تتداخل أو تؤثر في مجالات التفكير والتفعيل المعماري، ويجب أن يكون تفكيره واسعاً وتصوُّره فعالاً من أجل امتلاك القدرة على المحاكمة العقلية والنقد المنهجي بتوظيف هذه المؤثرات يستطيع المعمار تكوين صورة واضحة عن طبيعة المجتمع وتركيبته، ومن ثم يقدم الحلول المعمارية المناسبة الخالية إلى حد ما من المشاكل والأخطاء، ويقدّم عمارة مناسبة لعصره ومجتمعه.

والنتاج المعماري – (في كل زمان ومكان) – جاء نتيجة تفاعل وتمازج مجموعة من العلوم والفنون ولا تصل إلى المبالغة إذا قلنا أنّ العلوم والفنون انصهرت معاً لتعطي فن العمارة وسنحاول في هذه القراءة تسليط الضوء على بعض العلوم والفنون التي أثرت في نشأة وتطور فن العمارة.

تأثرت العمارة بمختلف العلوم المعاصرة لها – في مراحلها الزمنية – سواءً منها العلوم التطبيقة و الرياضية ( الرياضيات – الفلك – مواد البناء ) و العلوم الإنسانية (الطب، علم النفس)

1- العلوم الرياضية:
دلت الدراسات والملاحظات العلمية الدقيقة المطبقة على الصروح المعمارية القديمة على إلمام المعمار القديم بالعلوم الرياضية من خلال استخدام نسب دقيقة ومتناسبة في البناء وتطبيقها على الكل والجزء. عند دراسة المعابد المصرية القديمة (العهد الفرعوني).

نجد أنّ المعمار استخدم في تسقيف هذه المعابد أحجار وصل وزن بعضها إلى (40) طناً هذا الاستخدام لا يمكن أن يكون عبثاً أو تلقائياً، وإنما نتيجة معرفة وافية كاملة بحساب الضغوط ومقاومة الأجسام وتوزع الأثقال وطريقة انتقال الأحمال من عنصر إنشائي إلى آخر.

تعددت الآراء حول طريقة بناء الأهرامات ورفع الأحجار الضخمة، والرأي الأرجح أنهم استخدموا المنحدرات الاصطناعية، حيث يتم زلق الأحجار فوق جسور من الخشب حتى تصل مكانها وهذه الطريقة تبرهن على أنّ المعمار كان على دراية كافية بمبادئ القوة والعمل الفيزيائية وتطبيقاتها.

ونلاحظ في تسقيف المعابد المصرية إلمام المعمار بعلم الإنشاء المعماري. وذلك من خلال وضع العناصر الرأسية كاملة ثمّ توضع العناصر الأفقية (الأعتاب) واستعمل العتب المكون من قطعتين وهذا يدل على ذكاء المعمار لأنّ استعمال العتب المؤلف من قطعتين يجعله يتلافى انهيار البناء كلياً في حال كان العتب مؤلفاً من قطعة واحدة.

2-علم الفلك:
كان القدماء على إلمام جيد بعلم الفلك، في بلاد النيل. وصل علم الفلك إلى درجة جيدة من التقدم، واستفادت العمارة من هذا العلم.

هرم خوفو يعتبر بوصلة كبيرة، تدل على تكرار السنة الفلكية والزراعية وفصولها، فمن خلال انعكاس أشعة الشمس على أوجه الهرم يتم تحديد الأيام التي يحدث فيها الانقلاب الصيفي والانقلاب الشتوي وبداية كل فصل من فصول السنة.

كما أنّ دراسة تخطيط المدن في بلاد الشام والرافدين ودراسة فتحات المباني تدل على توظيف المعارف الفلكية في العمارة، حيث تدرس حركة الشمس وزوايا ميانها في كل فصل من فصول السنة لتأمين دخول الشمس إلى البناء من خلال الفتحات بشكل مدروس.

3 – علم مواد البناء:
عرف المعمار القديم أنواعاً مختلفة من مواد البناء استخدمها في العمارة، ومواد البناء المستخدمة في العمارة اختلفت من منطقة لأخرى ومن حضارة لحضارة تبعاً لعدة عوامل منها:
– المناخ: طبيعة المناخ تفرض استخدام أنواع محددة من المواد تتناسب مع العوامل المناخية للمنطقة، ففي المناطق كثيرة الأمطار يستخدم الحجر بدل اللبن لأنّه أقلّ تأثراً بالماء وعوامل الحت والرطوبة.

– الطبيعة الجيولوجية للمنطقة: يستخدم المعمار ما يتوافر بين يديه من مواد بناء تبعاً لجيولوجية المنطقة ففي بلاد الرافدين العمارة طينية بسبب قلة الصخور والأحجار، أما في وادي النيل فإنّ العمارة معظمها مبنية بالحجارة.

نشأت العمارة الطينية في بلاد الرافدين، استخدم المعمار في البداية التراب المخلوط بالماء ثمّ اكتشف ضعفه وعدم تحمله، وعندما خلط مع التراب والماء القش حصل على اللبن الذي يتميز بقوة ومتانة أكثر، وهنا بدأت تظهر معرفة المعمار بمواد البناء وخصائصها وأخذت هذه المعرفة تتطور، فعرف المعمار فيما بعد (شوي) اللبن فحصل على الفخار ذي المقاومة الجيِّدة ثمّ انتقل إلى مرحلة أخرى عرف فيها الخزف.

تطور علم مواد البناء وخصائصها أعطى العمارة دفعاً للأمام عملياً ونظريا.

وتعرف المعمار على الخواص الأخرى لهذه المواد واستفاد منها:
– استخدم المعمار القديم جدران سميكة من اللبن تؤدي سماكتها الكبيرة دور عازل حراري فعال.
– عرف المصريون القدماء واليونانيون أنواعاً من (الملاط) تشبه الإسمنت.
– دلت الدراسات الحديثة في بلاد الرافدين على استخدام القار كمادة عازلة للرطوبة.
– في بناء الأسوار. ترك المعمار فاصلاً كل (30) قرميدة من أجل مقاومة التأثيرات الجانبية لعملية تقلص وتمدد المادة المستعملة في البناء.

وفي العصر الحديث تمت الاستفادة من خواص المواد على مواد بمواصفات مثالية بطريقتين:
أ‌- التحسين والمعالجة: يتم بهذه الطريقة الحصول على مواصفات أكثر جودة للمادة، بعد دراسة خصائص المادة، مثلاً مادة الحديد عن طريق بعض المعالجات البسيطة والتغيير في نسب التركيب نحصل على حديد بمقاومات متنوعة (ضعيف المقاومة – متوسط المقاومة – عالي المقاومة) الإسمنت أيضاً تعددت أنواعه (إسمنت رغوي يتصف بقلة كثافته – إسمنت مقاوم للحموض – إسمنت ملون)، كما أنّ شكل التصنيع يغير من مواصفات المادة الميكانيكية، فالحديد المحلزن يعطي تماسك أكثر وقوة أكثر من الحديد الأملس.

ب‌- المزج والتركيب: بمزج الإسمنت والماء والرمل نحصل على المونة الإسمنتية وبمزج البحص والإسمنت والماء نحصل على البيتون، وبإضافة الحديد على البيتون المسلح العنصر الأساسي في قائمة مواد البناء.

تطور علم مواد البناء وخصائصها أعطى العمارة دفعاً للأمام عملياً ونظرياً، حيث استبدلت الجدران الحاملة ذات السماكات الكبيرة – التي تشغل حيزاً من الفراغ المعماري – بالأعمدة البيتونية المسلحة والجدران الخفيفة – قليلة السماكة – ثمّ استعيض عن الأعمدة البيتونية بالأعمدة الفولاذية في بناء الأبراج والأبنية ذات الارتفاعات الكبيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.