شعار قسم مدونات

المثقف الطباقي: إدوارد سعيد وغواية المنفى

blogs- ادوارد سعيد
ربما يكون مفهوم "الطباق في اللغة العربية أمرا مختلفا عن التأصيل الابيستومولوجي والموسيقي، والذي تصدى لتجلياته الثقافية والجمالية المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، في معركته الثقافية ضد نبوءات نبي الإمبريالية الغربية روديارك كيبلينج، وطروحات برنارد لويس، وصراع الهويات والحضارات الذي رّوج له صاوميل هنتغتون بدعم من الحكومة الأمريكية، وجيوش الاستشراق المهولة في القرن التاسع عشر مرورا بالقرن العشرين حتى عصرنا الحالي.

الطباق فن التعايش بين الهويات المتنافرة والمختلفة، إذ يكون التنوع في اللغة والدين والثقافة عاملا تكوينيا يساعد على التماهي بين الثقافات والقدرة على التفاهم والتشابك

ولكن لا بد لنا هنا من توضيح لمفهوم الطباق وتجلياته الفكرية والأنتولوجية، كمنهج تأويلي هيرمونيطقي نستطيع من خلاله قراءة الاختلاف والآخر، وعدم السقوط في فخ الاختزال والتطرف الآيدولوجي والديني والثقافي. ولو رجعنا للتقعيد الموسيقي لهذا المصطلح، نجد مثلا معجم حروف الموسيقى يعرف الطباق الموسيقي كالآتي: فن التشابك والتفاعل بين النوتات الموسيقية" أو "النوتات المتضادة" (178).

الطباق فن التعايش بين الهويات المتنافرة والمختلفة والهجين، إذ يكون التنوع في اللغة والدين والثقافة عاملا تكوينيا يساعد على التماهي بين الثقافات والقدرة على التفاهم والتشابك من خلال التحرر من الأيدولوجيات الدوجمائية والأفكار المسبقة المتشنجة والبعيدة عن قيم الحرية والحب والمساواة والكرامة.

من خلال هذا المفهوم الطباقي، يبدو أن المنهج الطباقي يشكل ضرورة وجودية وأخلاقية ملحة في التعامل مع الاختلاف والتناقضات التي تفرزها الهويات الهجين والهويات التي تشكلت في المهجر والمنفى. ولا يمكن أن ننسى قصيدة محمود درويش "طباق" والتي قام من خلالها برسم الهوية الطباقية شعرا ورؤية، من خلال حوار سقراطي متخيل أجراه بينه وبين المفكر إدوارد سعيد، إذ يقول:

هل المستحيل بعيد؟
يحب الرحيل إلى أي شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ
مقاعد كافية للجميع
هنا هامش يتقدم، أو مركز
يتراجع. لا الشرق شرق تماما
ولا الغرب غرب تماما
فإن الهوية مفتوحة للتعدد
لا قلعة أو خنادق

من خلال ظاهرة الطباق تصبح مسألة فهم الاختلاف في الهوية والتاريخ والثقافة أمرا أكثر جدوى، وضرورة وجودية لا يمكن تجاوزها
ومن الجدير بالذكر، أن مصطلح الطباق في الموسيقى الغربية هو مصطلح كلاسيكي طوره الغرب في عصر النهضة، وقام أدورنو بتبني تطوير نظريته عن الطباق في أعمال بيتهوفن، ليسبر علاقة الموسيقى كظاهرة جمالية بالمجتمع والثقافة والسياسية. يرى أدورنو مثلا أن النوتات الموسيقية تتمتع بخاصية جوانية وخصبة جدا من حيث النوتات الأفقية والعمودية، والتي تتشابه وتختلف في الوقت نفسه. فالأصوات الكثيرة في المقطوعة الموسيقية تتناغم وتتشابك من خلال مصفوفة معقدة من الأصوات المتشابه والمتناقضة في الوقت نفسه. الشاهد هنا قريب من نظرية باختين التي تتحدث عن تعدد الأصوات وتشابكها، ولكن لا وجود لغاية هارمونية في دمج الأصوات المختلفة بقدر ما هي سيمفونية مركبة لا تعتمد فقط على النوتات المتشابهة، بل تقوم على الاختلاف أيضا.

ويمثل الطباق حالة انعتاق إبداعية ولغوية وفكرية لا مثيل لها حيث تصبح الأصوات الأفقية ذات أهمية لا تقل جماليا وأسلوبيا عن الأصوات العمودية. ومن خلال ظاهرة الطباق تصبح مسألة فهم الاختلاف في الهوية والتاريخ والثقافة أمرا أكثر جدوى وضرورة وجودية لا يمكن تجاوزها، وتصبح أنسنة الأدب ضرورة ملحة للقارىء والناقد والكاتب على حد سواء. المهم هنا هو تعدد الأصوات والسرديات والخطاب بكل ألوانه وأطيافه وأعراقه، لتكون القراءة الطباقية أداة نقدية وأبيستمولوجية لتفكيك التناقضات بين الذات والآخر، وبين الذات والعالم، وبين الذات وصورتها الجوانية وتجلياتها الإجتماعية والأيدولوجية والجمالية في سياق الجندر والعرق والهوية ومركب الواقع المتخيل والواقع المفروض.

الطباق الموسيقي في السياق الأوروبي:
تعود لفظة الطباق لتراث كلاسيكي قديم تجلى في الأدب الأوروبي في القرن الرابع عشر، واشتق مفهوم الطباق من الكلمة اللاتينية (Contrapunctum). ومن الجدير بالذكر أن مفهوم الطباق متجذر تاريخيا في ثقافة الهيمنة الأوروبية، وكما أكد أيرفينج في كتابه الموسوم بعنوان "الطباق الاستعماري"، فإن الغرب كان يتوسل بمفهوم الطباق كوسيلة للتفرد الحضاري والموسيقى على الشعوب الأخرى غير الأوروبية. وقد تم توظيف المفهوم موسيقيا ونقديا من قبل المفكر الألماني ثيودور أدورنو، ومن بعده قام المفكر الكوني إدوارد سعيد بتبني المفهوم نقديا وفكريا في سياق مختلف ومناقض للمفهوم الغربي المركزي.

الطباق هو تشابك الأصوات الموسيقية المتنوعة وتناقضها وتشابهها. قام أدورنو بدراسة طباقية لنصوص بيتهوفن الموسيقية في سياقها التاريخي والجمالي، وقام بكشف التناقضات المركبة في الإنتاج الموسيقي لبيتهوفن من خلال المأساة الشخصية التي عايشها الأخير. وما قام به سعيد هنا هو التوسل بهذا المصطلح الموسيقي وتوظيفه بصورة نقدية وابيستومولوجية في تفكيك صورة الهوية القومية الثابتة، وما يسميه المفكر طلال أسد بثقافة الموت، والهوية الدينية المؤسساتية، وكل أشكال القمع والإستعمار والهيمنة والمصادرة الثقافية والمعرفية في علاقة الشرق بالغرب وعلاقة الشرق بذاته.

لقد شكل المنفى الطباقي علاقة مركبة في مخيال المفكر والناقد الموسيقى إدوارد سعيد. وهنا يمكن أن نخلص للنقاط التالية في ظل فهمنا للهوية والآخر ودور المثقف الطباقي في مقاومته لجرافات التاريخ والسلطة:

1- المثقف غير محايد في مواقفه الجمالية والتأويلية والسياسية والأيدولوجية، فهو إما أن ينحاز للمعذبين في الأرض في دفاعه عن الحقيقة الأخلاقية وقيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان والتوازن البيئي، وهذا ينطبق على مشروع إدوارد سعيد نفسه ونعوم تشومسكي وبول فريري وألين بيندا ونيتشه وسارتر وجوديث بتلر وغيرهم.

والصنف الثاني من المثقفين في عمومهم يميلون للانحياز والتقرب للسلطة من أجل تحقيق مشاريعهم الشخصية واستحقاقاتهم النرجسية على حساب القضايا الجمعية الكبرى، كما حدث مع إزرا باوند في تغزله بالفاشية، وكما رأينا في موقف أدونيس المخجل من الثورة السورية، وموقف سعيد عقل المخزي من الفلسطينيين والعرب، وموقف سام هاريس العنصري من الإسلام والدين بصورة عامة.

كان سعيد مثقفا موسوعيا وطباقيا يدرك أن الإعتراف بالمحرقة اليهودية لا يتعارض مع راديكاليته في مقاومة المحو الثقافي والتطهير الحضاري الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين  
2- ثمة علاقة طباقية عميقة ومعقدة بين المثقف والمنفى، وبين المثقف ومواقفه الأخلاقية من السلطة والتدخل الغربي، ولا بد من فهم التناقضات الفكرية والتأويلية التي تحاصر مشروع المثقف الطباقي كي لا نسقط في فخ الاختزال والتعميمات المتسرعة، ونجد مثل هذا التناقض المركب في مقولة إدوارد سعيد المشهورة في إحدى مقابلاته حين قال "أنا المثقف اليهودي الأخير". وربما تتجلى تناقضات هذه العبارة الطباقية المربكة لدى أنصار القومية العربية في فهم إسقاطات "يهودية" إدوارد سعيد" و"فلسطينيته" في خضم حربه الضروس ضد ممارسات العدو الصهويني ومشاريع الاستيطان التي التهمت الأراضي الفلسطينية واجتثت ملايين الفلسطينين من جذورهم، وقوضت أي فرصة قد تلوح لتحقيق السلام المتخيل في الشرق الأوسط.
 
كان سعيد مثقفا موسوعيا وطباقيا يدرك أن الإعتراف بالمحرقة اليهودية والاستبداد الذي تعرض له اليهود في أوروبا الشرقية لا يتعارض مع راديكاليته في مقاومة المحو الثقافي والتطهير الحضاري الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين في الشرق الأوسط. بدا هذا واضحا في موقف سعيد من ياسر عرفات، وانتقاده المستمر لتهور ياسر عرفات في سنواته الأخيرة، وسقوط الأخير في فخ أوسلو.

3- لا يمكن قراءة الأدب والموسيقى بمعزل عن الثقافة وفهم دوافع الهيمنة والسلطة بكل أشكالها وعلاقة هذه الدوافع بالوعي الإنساني والهوية والقيم الكونية والتاريخية والاقتصادية التي تشكل خريطة العالم الحقيقية والمتخيلة. ومن هنا يمكن اعتبار المنهج الطباقي وسيلة تحررية وعلمانوية في قراءة الذات والآخر والتاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.