شعار قسم مدونات

رونالدو وميسي العرب

blogs-مسي

أكثر المقالات تفاعلا في مواقع الرياضة مقالات عن ميسي أو رونالدو، أما إذا اجتمع الاثنان في مقال واحد فذاك نذير حرب ما بعده نذير، فيغرق المتتبعين في نقاش طويل عقيم، باحثين عن أكثر سبل الإقناع فعالية من أجل افحام خصومهم من الطرف الآخر، والمحزن أن تجد النقاش يخرج عن دائرة الرياضة وكرة القدم لينتقل إلى أبعاد أخرى تتعلق بتصرفاتهم وحياتهم الشخصية، فتجد مقالا طويلا عريضا عن قصة شعر رونالدو أو عن لحية ميسي.

وزاد غلو المعجبين حتى بات الكثير منهم يشجع رونالدو وميسي حيث ما حلا وارتحلا، وانتقلوا من تشجيع البارسا والريال إلى تشجيع الأرجنتين والبرتغال، بل أكثر من ذلك إلى عدم الاكتراث كثيرا إلى فوز احدى هذه الفرق ما لم يسجل أهدافا ميسي أو رونالدو، فتجد جل النقاشات تدور حول هذين النجمين، وفُرِض على أغلبنا الانتماء إما إلى برصا أو ريال، فبُنيت صداقات وخُرّبت أخرى على أساس هذا الانتماء.

أصبحت اليوم لكرة القدم مدارس وأندية خاصة باهضة الثمن وأصبحت محط اهتمام الأغنياء، وداخلها ما داخلها من فساد الحكم من رشوة ووساطة

فإن حق لنا القول إن لكل زمان نجومه فرونالدو وميسي نجوم هذا الزمان، وإن جاز لنا مقارنة العرب الحاليين بسابقيهم لوجدنا في إحدى الأزمنة القديمة نجوما غير نجوم الرياضة والأزياء وأبطال الأفلام والمسلسلات، فنجوم العرب كانوا من الشعراء، ولئن أصبح ميسي ورونالدوا نجوم رياضة الجسد، فقد كان للعرب نجوم في رياضة العقل والروح.

يقول العقاد في كتابه "ساعات بين الكتب": من تلك الأخبار العجيبة في كتب الآداب العربية ما رواه صاحب الأغاني في ترجمة جرير بعد العنعنة التي لا بد منها حيث يقول:
بينما المهلب ذات يوم بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبة
وصياحًا، فقال: ما هذا؟ قالوا: جماعة من العرب تحاكموا إليك في شيء، فأذن
لهم. فقالوا: إنا اختلفنا في جرير والفرزدق، فكل فريق منا يزعم أن أحدهما
أشعر من الآخر، وقد رضينا بحكم الأمير.

فقال: كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقان جلدتي! لا
أحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يهون عليه سؤال جرير وسؤال الفرزدق،
عليكم بالأزارقة؛ فإنهم قوم عرب يبصرون الشعر ويقولون فيه الحق.
فلما كان الغد خرج عبيدة بن هلال اليشكري ودعا إلى المبارزة، فخرج
إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقًا، فقال: يا عبيدة! سألتك لله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه.

قال: سل.
قال: أوَتخبرني؟ قال: نعم إن كنت أعلمه.
قال: أجرير أشعر أم الفرزدق؟
قال: قبحك لله! أتركت القرآن والفقه وسألتني عن الشعر؟
قال: إنا تشاجرنا في ذلك ورضينا بك، فقال: من الذي يقول:
وطوى الطِّراد بطونهن كأنها.. طي التجار بحضرموت برودا
فقال: جرير! قال: هذا أشعر الرجلين.

وفي هذه القصة دليل عجيب ودامغ على أن هوى الشعر كان هوى الشعب كله ولم يكن يقتصر على الأدباء منهم، ولم يكن محط اهتمام خاصة الخاصة من الملوك والوزراء وأصحاب الثراء، وقد بلغ الشغف بهؤلاء الجنود أن يتحاكموا إلى أميرهم وألا يستغرب من اهتمامهم هذا وهم في موقع الحرب بل أكثر من ذلك أن يرشدهم إلى سؤال عدوهم!

ونعجب من قراءتنا في كتب التاريخ أن الجنود الألمان كانوا يتناقشون في جمهورية أفلاطون وهم ذاهبون إلى الحرب، فنفهم أن اهتمام الشعوب هو ما يفضي إلى إنتاجات أدبية وعلمية عظيمة، وهو ما يمكن من ولادة عديد الشعراء والأدباء ويميز الرديء والجيد منهم على اختلاف مستوياتهم، وما إن نأت الشعوب عن الأدب والتثقيف، ليصبح أداة في أيدي الحكام ونادي خاص بالنخبة الارستقراطية في البلاد، حتى تجد الأدب قد خلا من كل حس ولم يعد يعبر عن كل جوانب الحياة، فلا تمييز آنذاك بين جيد ورديء، وما يسري على الشعر والأدب يسري على الرياضة.

اهتمام العرب انتقل من رياضة العقل والروح إلى رياضة الجسد، وكلهم محمود ما لم نغلوا في حب الأشخاص ونباشر بحب أفعالهم في مجالاتهم وانجازاتهم\

والدليل بات واضحا، فبعد أن كانت الرياضة في أوطاننا محط اهتمام الشعب والفقراء، وكانت ملاعب كرة القدم تملأ الأحياء الشعبية، وكذلك نواد التايكواندو والمسابح البلدية، وملاعب كرة السلة وكرة اليد في الاعداديات والثانويات، قد أصبحت اليوم لكرة القدم مدارس وأندية خاصة باهضة الثمن وأصبحت محط اهتمام الأغنياء، وداخلها ما داخلها من فساد الحكم من رشوة ووساطة ونهب للميزانيات، فخلت ساحة العرب من كل الميداليات.

وبعد فإن اهتمام العرب بنجومهم الفرزدق وجرير كان اهتماما بشعرهم وفقط، لم يكونوا يهتموا كثيرا بحياتهم وتصرفاتهم، وعاشوا على مناقشة أدبهم في كل جوانب الحياة، حتى في حروبهم التي لم يخرجوا منها إلا مقتولين أو مجروحين، وكانوا يحتكمون في نقاشاتهم إلى أعلمهم ولو كان من عدوهم، أما حالنا اليوم فاهتمام العرب لا يعدو عن كونه اهتمام بأشخاص، ولو اهتممنا بما يقوم به ميسي ورونالدو داخل رقعة الملعب، وتدارسنا طرق تدريباتهم واستنسخناها لكان قد خرج منا رياضيون أكفاء يعلمون ما يفعلون.

إذن فاهتمام العرب انتقل من رياضة العقل والروح إلى رياضة الجسد، وكلهم محمود ما لم نغلوا في حب الأشخاص ونباشر بحب أفعالهم في مجالاتهم وانجازاتهم، وأظن العرب القادمون متجهون إلى اهتمامات أخرى بعد العقل والعضلات، ربما اهتمام بالعيون ليكون نجوم العصر القادم أبطال مسلسل مدبلج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.