شعار قسم مدونات

لغة الضحايا: في جذور الخطاب السياسي الشيعي

blogs - shia
في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة عقود، في كربلائيات عاشوراء، التي كانت مسموحة قبل أن يتمكن البعث من حكم العراق؛ يروي لي والدي عن لقاء أحد الإسلاميين السوريين بالمفكر والفيلسوف العراقي الشيعي محمد باقر الصدر، صاحب "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، في بغداد، وهما ينظران من الشباك للمواكب الحسينية، المليئة باللطم والدم، لعامة الشيعة، وانتقاد القيادي السوري لها، فأجابه الفيلسوف الصدر: "ببساطة، نحن "الشيعة" نأخذ شرعيتنا من هؤلاء العامة، وأنتم "السنة" تأخذونها من الحكام".
 
لم يكن الاستحضار لـ"العامة" "الضحايا" مجرد أداة خطابية تحريضية، في السياق النظري الشيعي، وحسب؛ لكنه حاضر في الخطاب السياسي لـ"الولي الفقيه".

في بغداد كذلك، وفي عام ١٩٤٨؛ ربما لا نذكر من "الشهداء" الذين سمي الجسر العتيق، الواصل بين الرصافة والكرخ، باسمهم: "جسر الشهداء" سوى جعفر الجواهري، شقيق الشاعر العراقي، الشيعي كذلك، محمد مهدي الجواهري، الذي خلده بقصيدة "أخي جعفر"، وخلد معه الثورة والدم، لتستعاد القصيدة مع الربيع العربي، بصوت الشيخ والمنشد البحريني، الشيعي كذلك، حسين الأكرف، بعنوان "لغة الضحايا"، والتي يقول بها:
"أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ.. بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ؟
فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً.. وليس كآخَرَ يَسترحِم
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع.. أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا
ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين: أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا
أتعلمُ أنّ جِراحَ الشهيد.. تظَلُّ عن الثأر تستفهِم؟".
 

لم يكن هذا الاستحضار لـ"العامة" "الضحايا"، بين المنشد والمفكر والشاعر، مجرد أداة خطابية تحريضية، في السياق النظري الشيعي، وحسب؛ لكنه حاضر في الخطاب السياسي لـ"الولي الفقيه"، رأس الدولة السياسي والديني معا، لإيران الإسلامية، على يد روح الله الخميني، الذي جعل من "المستضعفين" موضوع انشغاله الخاص، بحسب القانوني الدستوري نوح فيلدمان، الذي يقول إن الخميني كان يستخدم لفظ "المستضعفين" القرآني بانتظام، والذي وجد صدى في كتاب "معذبو الأرض" لفرانتز فانون، عن طريق المفكر الشيعي علي شريعتي، صاحب "النباهة والاستحمار"، وهذه الكثافة للبعدين: الثأري الثوري (مقابل الإصلاحي)، والشعبوي العامي (مقابل النخبوي السلطوي)، ليست صدفة في الخطاب الشيعي العام، لكنها نتيجة لتراكم تاريخي وجوهري في النظرية الشيعية الدينية والسياسية، بحسب هذه الملاحظات السريعة، والتي قد تكون مخلة.
 

في الأساس، كان التشيع نتيجة لخلاف سياسي بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، لكنه أخذ بعده "الروحي" الديني، في الحادثة الأكثر تأسيسا وتشكيلا للوعي والوجدان الشيعي، وهي مقتل الحسين بن علي عليه السلام، في كربلاء، والتي يمكن أن تعتبر المشكّلة لـ"الميتافيزيقي" أو "الماورائي" الشيعي، والتي استحضرت الشيعة كمستضعفين ضحايا، مطالبين بالثأر والثورة الدائمين، ومشحونين بالعاطفة الأزلية، و"متشيعين" لآل البيت، أو القائم مقامهم، أبدا، حتى يرجع المهديّ حفيده الثاني عشر.
 

حول تلك الفترة الزمنية، بدأ الوعي السني بالتشكل حول الشرعية والشريعة، والتي بلغت أوجها بـ"أدب الدنيا والدين" للماوردي، الذي كان تأصيلا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، والذي تلاه فيما بعد "غياث الأمم" للجويني، و"السياسة الشرعية" لابن تيمية، وسواها، والتي كانت بالمجمل تأصيلا وتثبيتا لدور العلماء الشرعيين "أهل الحق والعقد"، الذين طالبوا أن تتم الخلافة (أي تسيير الشأن العام، أو السياسة) على يدهم باختيار أفضل مرشح، وبتأييدهم، ليمنحوه الشرعية من الشريعة، "ما لم يكن الأمر بحكم الأمر الواقع" -التي يختصرها الجويني بجملته: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم- ، بحسب ما يوضحه ويفسره فيلدمان في كتابه المهم: "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها".
 

يرى فيلدمان في كتابه أن نهوض "الدولة الإسلامية"، أو الحكم القائم على الشريعة الإسلامية، كان بسبب دور العلماء، الذين كانوا كوسطاء بين المجتمع والسلطة يمنحون الشرعية من الشريعة للحكام، وأن سقوط الدولة بدأ باختلال هذه العلاقة الوسيطة مع "التنظيمات" العثمانية، ما بين أعوام ١٨٣٩ – ١٨٧٦، والتي يمكن اختصارها بـ"التقنين"؛ أي اختزال مضمون الشريعة في قواعد، والثانية "وضع المؤسسات"، التي لم تكن موجودة وإدماجها في النظام الدستوري الجديد، مما أدى لإزاحة "طبقة العلماء" الوسيطة، دون أي مؤسسة أو كيان اجتماعي بديل يوازن السلطة التنفيذية، والتي أدت لأفول الدولة ثم سقوطها في النهاية.
 

حين غنى الأكرف،  أغنية "موطني" للربيع العربي، واستحضر الثورات في المقطع المصور، نسي الرادود الشيعي أو تناسى أن يتحدث عن ثورة سوريا، التي كانت أقرب الثورات للحسين من يزيد.

قبل نهاية فترة التنظيمات، وبداية نهاية الإمبراطورية العثمانية، بقرن تقريبا؛ كانت نهاية المملكة الصفوية، التي يمكن أن تعتبر الفترة التاريخية الثانية المشكلة للفكر السياسي الشيعي (الجانب التطبيقي)، والتي كانت امتدادا للإمبراطورية الفارسية، بـ"عبقريتها التقليدية للنظام الإداري المستمد من الإمبراطورية السابقة على الإسلام"، والتي شهدت وضع نظام علمائي رسمي يقوم على التراتبية وعلى قدر كبير من التطور، ينتهي بـ"المجتهد"، أو "آية الله"، والذين توسعت مساحتهم الشرعية -لتشمل الأبعاد الفلسفية، مثلا- على حساب العلماء السنة الذين أصبحوا يكررون أقوال من سبقهم إلى حد بعيد؛ ومساحتهم التشريعية، حيث كانوا يتعاملون مع الحكام أساسا على أنهم منقوصون للسلطة السياسية والدينية من الإمام الحقيقي – الذي يجب أن يكون من آل البيت -، أو غير شرعيين أساسا إن كانوا سنة، منحازين أكثر لـ"الشعب" أو "العامة" -بحسب ما أكد الصدر بعد أكثر من ثلاثمئة عام-، مقابل العلماء السنة الذين كان عليهم مواجهة الخليفة موضوعيا، والاشتباك معه، بما يملكه من حقوق ومسؤوليات دستورية خاصة.
 

القفزة التاريخية الثالثة كانت اندماج البعد الماورائي، الديني والعاطفي، بالبعد التطبيقي، السياسي والتنظيمي للعلماء، والمتمثل بـ"الخمينية"، على يد روح الله الخميني، الذي أصبح الشرعي الأول الناطق باسم الإمام المهدي كـ"ولي فقيه"، من جهة، وقائد الدولة والمجتمع، الذي قاد "المستضعفين العامة الضحايا" في الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، متشيّعين له، كامتداد للنبي، ومسلمين له، وحده دون سواه، بعاطفة ليس لها نظير، دفعت أكثر من سبعمئة ألف إيراني للتضحية بأرواحهم، بمشاهد كان منها القفز على الألغام، أو نصب الأجساد جسورا للدبابات، بما يقال لهم أنه "استمرار لمسيرة الحسين"، وهم يحملون مفاتيح الجنة، سواء في أعناقهم فعلا، أو في أرواحهم ضمنا.
 

حين غنى الشيخ الأكرف، صاحب "لغة الضحايا"، أغنية "موطني" للربيع العربي، واستحضر الثورات في المقطع المصور، نسي الرادود الشيعي أو تناسى أن يتحدث عن ثورة سوريا، التي كانت أقرب الثورات للحسين من يزيد، الذي يدعي حمل إرث الحسين ويقتل أبناءه وأحفاده، واستذكر سوريا بالمقابل بأغنية "لن تؤسري يا زينب مرتين"، في استدخال للعاطفي بالسياسي بالشرعي بالتشريعي، في أجلى مظاهر الخطاب الشيعي السياسي، والذي ينتظر من "حرستا"، التي انتفضت لمطالب حقوقية وسياسية، أول علامة لظهور "المهدي" الديني الخالص، والذي يمتد، لا زمانيا وحسب من الجواهري إلى الأكرف، ومن الصفوي إلى الخميني، بل تحاول إيران من قم أن تمده مكانيا من بحرين الأكرف، إلى أفغانستان "فاطميون"، مصدقين جميعا أن "النجباء" العراقيين الطائفيين يدافعون عن مرقد متخيل لزينب في حلب، ويتقربون من الحسين بذبحه مرتين، مصدقين "اللغة" القاتل "ضحية" ويزيد "حسينا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.