شعار قسم مدونات

القانونُ والأخلاق!

blogs - justice

يقولُ الرّائعُ علي عزّت بيغوفيتش في تحفته الفكريّة "الإسلام بين الشّرق والغرب" : إنّ كثرةَ القوانين في مجتمع ما وتشعّبها، علامة مؤكدة على وجود شيءٍ فاسدٍ في هذا المجتمع، وفي هذا دعوة إلى التّوقف عن إصدار مزيدٍ من القوانين والبدء في تعليم النّاس وتربيتهم!
 

بيغوفيتش، الرّجلُ الذي أكل السّجن ثلث عمره ظُلماً، ثمّ خرج من بين براثنه عصيّاً على الكسر، وقاد شعبه في أجمل حركة تحرر من نير الاستعمار في العصر الحديث، ثمّ وصل إلى سُدّة الرّئاسة فحكمَ وعدلَ ثمّ استقال قائلاً: أخافُ أن أموت وأنا رئيس! هذا الرّجل خير من يُقتبس عنه إذا كان الحديث عن ثنائيّة القانون والأخلاق!
 

الهدفُ من القانون هو استقرار النّظام في المجتمع، فغايته من هذا المفهوم نفعيّة، أما الأخلاق فغايتها مثاليّة، تنزعُ بالفرد نحو الكمال!

وعوداً على ذي بدء، بيغوفيتش ليس ضدّ أن يكون في المجتمع قوانين تُنظّم علاقة الفرد بالدّولة، وعلاقة الأفراد ببعضهم، أصلاً يستحيل قيام مجتمع إنسانيّ دون هذا، ولستُ بحاجةٍ لأقتبسَ كلام ابن خلدون حول ضرورة القانون للمجتمعات الإنسانيّة، فهذا من البديهيّات التي لا ينتطحُ فيها عنزان، ولكن الرّجل يُنادي بتربية أخلاقيّة تجعلنا لا نرتكبُ الخطأ لأنّه ضدّ القانون، ولكن لأنه ضدّ الأخلاق!
 

والحديثُ عن ثُنائيّة القانون والأخلاق قديمٌ قِدمَ المُجتمعات الإنسانيّة، وإن كانت أقدم وثيقة إنسانيّة تُعالج هذا الأمر هو كتاب أرسطو، إلا أنّي على يقين أنّ الإنسان تلقى تربية أخلاقيّة إلى جانب الضابط القانوني منذ اللحظات الأولى من عُمْرِ استخلافه للأرض، فهذا دأب الأنبياء، ولكيلا يكون كلامي جُزافاً أستشهدُ بابني آدم عليه السّلام، فالخلافُ بينهما نشأ قانونياً أوّل الأمر، حيث كان يحق لهابيل الزّواج من المرأة محطّ النّزاع ولا يحق لقابيل! ولكن الأخلاق ظهرتْ عندما أراد قابيل قتل هابيل، رأينا هابيل يتنازل عن حقّه القانوني وهو الدّفاع عن النّفس مقابل الالتزام الأخلاقي: " لئن بسطّتَ إليّ يدكَ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلكَ "!
 

الهدفُ من القانون هو استقرار النّظام في المجتمع، فغايته من هذا المفهوم نفعيّة، أما الأخلاق فغايتها مثاليّة، تنزعُ بالفرد نحو الكمال! وإن كان لا غِنى عن القانون حُكماً، إلا أنّه لا غنى عن الأخلاق لزاماً، والإسلام حين سنّ القوانين، ووضع الحدود، سعى قبل هذه الضرورة الاجتماعيّة إلى تربية النّاس تربية أخلاقيّة!
 

فالقانون لم يكن يُلزم عثمان رضي الله عنه أن يتبرّع بالقافلة عام الرّمادة، فليس للدّولة حقّ في ماله إلا ما يتوجّبُ عليه من زكاة، ولكن عثمان تنازل عن حقّه القانوني والتزمَ بواجبه الأخلاقي!
 

وعندما نام عليٌّ رضي الله عنه في فراش النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن في الإسلام خدمة عسكريّة إجباريّة، ولا قانون محاسبة الفارّ من الجُنديّة، ولكن هذه الفدائيّة هي التزام أخلاقي لا شأن للقانون فيه!
 

ولم يكن القانون ليُعاقب أبا بكرٍ إن لم يشترِ بلالاً ويُعتقه، ولكن أخلاق أبي بكرٍ لم تكن لتسمح له أن يرى أخاً له في الله يُعذّبُ فوق رمال مكة الملتهبة ويتوسّدُ هو دراهمه!
 

وحين وقفتْ أمّ عمارة رضي الله عنها بشراسة كاللبؤة تذود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كانت تعلم أنّ القانون أسقط عنها مثل هذا، ولكن الأخلاق تجعلنا لا نسأل عن حقوقنا بقدر ما نسأل عن واجباتنا!
 

وحين تركتْ خديجة رضي الله عنها مالها كلّه لزوجها ينفقه كيف شاء، لم يكن قانون قريش يُبيح مال الزوجة للزوج، وما كان قانون الإسلام ليببح هذا أيضاً، ولكنّ خديجة علمت أنّ مثل زوجها لا يُمنعُ شيئاً، وأنّه من العيب أن يجتمع زوجان تحت سقف واحد، وفي سرير واحد، ثم يفترقان في حفنة دراهم!
 

المجتمعات التي يُولي فيها النّاس اهتماماً للقانون أكثر مما يولون لضمائرهم ستضطرُّ أن تسنّ كل يوم قانوناً.

وحين وقفتْ الشّفاءُ بنتُ عبد الله رضي الله عنها لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه يوم أراد أن يُحدد مهور النساء بعدما شهد مغالاة النّاس فيه، وقالت له: لا يحقُّ لكَ هذا! وتلت عليه قول الله تعالى "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا" . لم تكن موظّفة في المحكمة الدستورية العليا، ولا في مصلحة تشخيص النّظام، وإنما كانت على مستوى عالٍ من الأخلاق بحيث تقفُ لأحد أشهر العادلين في التّاريخ وتقول له: لا يحق لك!
 

والإسلام الذي حرص على تحرير العبيد، لم يسنّ قانوناً يقضي بنزع العبيد من أسيادهم عنوةً، ولكنّه جعل الأمر عبادة، وكفاراتٍ، سعى إليها النّاس برضاهم بعد أن تلقوا تربية أخلاقيّة!
 

خلاصة القول:
إنْ كُنّا لا نسرق إلا لأنّ السّرقة تؤدي إلى السّجن فنحنُ عبيد! الأحرار يُحافظون على أموال الآخرين وأعراضهم ودمائهم لأنهم إن لم يفعلوا أساؤوا لأنفسهم قبل أن يُسيئوا إلى الآخرين وإلى المجتمع، عندما يقصدنا قريبٌ أو صديق طلباً للعون والمساعدة ونرفض، فإننا في مأمن من المحاكم ولكننا لسنا في مأمن من ضمائرنا! والمجتمعات التي يُولي فيها النّاس اهتماماً للقانون أكثر مما يولون لضمائرهم ستضطرُّ أن تسنّ كل يوم قانوناً، ولا ينقذُ المجتمعات إلا الأخلاق، وما نام عمر رضيَ الله عنه آمناً مطمئناً دون حُرّاسٍ حتى أدهش رسول كسرى إلا لأنه كان نبيلاً وخلوقاً لا لأن القوانين بيده!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.