شعار قسم مدونات

من شباب سوريّين في إسطنبول إلى.. إليهم

اللاجئون السوريون ومابينية الهوية
لأنَّنا على شفا جُرف حياةٍ كالموت، ولأنهم لا يعرفوننا ولا يروننا، ولا وقت لديهم كي يقرؤونا أو يقرؤوا لنا؛ فإنَّنا نكتب رسائلنا منا إلينا في زحمة الدمع المتناثر على أرصفة التَّشظّي، فيا نحن:
 

شبابٌ سوريُّون تستقبلنا إسطنبول شُعثًا غُبرًا حقيقةً ومعنى، نحطُّ بها رحالنا دون أن نُلقي عصا الترحال عن أكتافنا المكسورة، وإذ نطأ شوارعَها فإنَّنا لا ننشغل بالتَّفكير في معالمها الجماليَّة التاريخيَّة التي علينا زيارتُها، ولا نحتار أنذهب إلى مضيق البوسفور أم آيا صوفيا!، كلُّ ما يشغلُنا أن نجدَ في زقاقٍ ما بيتًا رخيصًا أو سكنًا شبابيًّا أقلُّ كلفةً لنهوي بأجسادنا على سريرٍ يغدو وطننا في هذا اللجوء الذُّلِّ، نتكدّس في بعضِ بيوتات هذه المدينة على أسرّتنا المتراكمةِ فوقَ بعضها مثل صناديق الخضروات أمامَ تاجرٍ في سوق الهال، بل إنَّنا كثيرًا ما نغبطُ الخضراوات؛ إذ هيَ محلّ النّظر والاهتمام بينما نحنُ مدفوعونَ بالأبوابِ منكسرون بلا صدى.

لا تصدقوا صورنا الباسمة، إنَّها مستعارةٌ لنريكم أنَّنا لريب الدهر لا نتضعضع، هي كابتسامة ذهولٍ من أبٍ فَقَدَ للتَّوِّ ابنه الوحيد شهيدًا.

وبعد السَّريرِ نبدأ رحلةَ البحث عن مكانٍ للعمل يستغلُّنا صاحبُه التركيّ أو السوريّ أو العربي -لا فرق- ونرضى باستغلاله في عملٍ يصل إلى 12 ساعة يوميًا؛ مقابل ما يسدّ أجرة السرير وثمن طعام وبعض ما يُرسَل إلى الأهل الثابتين تحت البراميل على مرمى القلب والروح.

وعلى مرمى الجسد هنا لا ينشغل الذهن بجامعِ الفاتح زيارتِه، ولا بالوقوفِ أمامَ قبرِ السلطانِ، ولا بالتَّعريج على مسجد السلطان أحمد أو الاستمتاع برحلةٍ بحرية في مضيق البوسفور، وبالطبع لا نفكر مطلقًا بزيارة قصر الخلافة في توب كابي فالقصور تستقبلُ السائحين، واللاجئونَ يستقبلهم السعي والكبد.

وفي الليل تقودنا الخطى المكتظة بالتعب إلى (مأوانا).. ويردِّدُ الهمُّ فينا "ألا موتٌ يُباع فنشتريه، ألا وطنٌ يصونُ فنبقى فيه!" فإذا ما وصلنا.. فررنا من كثافةِ الليل إلى هواتفنا، وبعدَ انسحابنا من معاركنا في فضائنا الافتراضيّ نتكوَّرُ في زاوية الوطنِ السريرِ؛ نسند رؤوسَنا المثقلةَ إلى وسائدنا كما تُسندُ أمٌّ رأسها إلى شاهدةِ قبر ابنها عند الغروب؛ لا ننامُ نحنُ بل نموتُ كلَّ ليلة لُنبعث في أحلامنا المتقدّة ناراً من حنينٍ لا كبرياء فيه.
 

ما علينا، المهمّ أننا بإسطنبول البديعةِ في يوم عطلتنا -إن كان فينا بقيةٌ من جَلَد- نهرعُ إلى جمالها كما يفلتُ الأسير من قيودِه، نقفُ أمام البحرِ عراةً من كلّ تجمّلنا، نحدّثه عن تعبِنا وظلمِنا وانكسارنا، ونذرف قليلًا من الدمع وكثيرًا.. كثيرًا من الذكريات ثمَّ نغسلُ وجوهنا بالعجز، ونلتقط صورة السيلفي ضاحكين لننشرها على صفحات الفيس بوك ومجموعات العائلة في الواتس آب؛ ليرى الجميع سعادتنا المزيفة في غربتنا، لا تصدقوا صورنا الباسمة، إنَّها مستعارةٌ لنريكم أنَّنا لريب الدهر لا نتضعضع، هي كابتسامة ذهولٍ من أبٍ فَقَدَ للتَّوِّ ابنه الوحيد شهيدًا.

في الأعيادِ نجاهدُ ألا نعطّلَ من أعمالِنا، لئلا نخلو بأنفسنا، ولئلا يشتعل العقل بالتفكير الذي يهوي بنا في أودية سحيقة من الأسى، إلا أنَّ الإصرار على ظلمنا مستمرٌ؛ فيوم العيد عطلةٌ إلزاميَّةٌ للجسد ويوم عملٍ مضنٍ للروح والعقل؛ ففي صباحه نتَّصِلُ بأهلنا لنكذب عليهم ويكذبوا علينا مصطنعين السعادة والفرح مدَّعين أنَّنا بخير، ما أكذبَنا حين نحدِّثُهم في العيد وغيره أنّنا بخير!
 

وما إن نُغلق هواتفنا حتى تستحيلَ الضحكات بكاءً يلتهب غضبًا وسُخطًا على كل شيء، نلعن كل شيء ثمَّ ننام وننام فإذا أقبل الليلُ ستارُ الغرباء تسكَّعنا في شوارع المدينة تحتضننا أرصفتها.. لا نرى إلا بقايا وجوهٍ غريبة تعلوها أحزانُ مقاتلين ارتدُّوا على أعقابهم عن أسوار مدينةٍ دون أن يحظوا بالفتح المبين، ولا نسمع إلا صوت مظفر النواب يتردد صداه في وادي الليل والعقل:
يجي يوم نرد لأهلنا
يجي يوم إنلم حزن الأيام
وثياب الصبر … ونرد لأهلنا
يجي يوم يمشي الدرب بكيفه ياخدنا لوطنَّا..
 

حتى الدعاء المجبول بالشفقة على مسامعنا؛ إذ تنزل على أرواحنَا فإنَّها لا تختلف ألمًا وجرحًا وتمزيقًا عن براميل تنزل على رؤوس الأهل هناك خلف المدى الأحمر.

في إسطنبول نتفاعل مع تغيّرات السياسة التركية وأحداثِها التي لا نعرف كثيرًا عن تفصيلاتها وخرائطها، ولا يهمّنا فيها إلَّا ما يؤثّرُ على جرحنا ونزفنا وبقائنا على أرضٍ تلمُّ بقايا شعثنا؛ في الانتخابات البرلمانية فرحنَا أكثر من أبناء حزب العدالة والتنمية ـربّماـ بفوزه، وأكثرنا لا يعرف الفرقَ بين حزب العدالة وحزب الشعب ولا يهمّه في زحمة الألم والدم والجرح أن يعرف ذلك، ولكن الذي كانَ يسيطرُ علينَا أنه إذا فاز "التانيين" قد يطردوننا، وعندما فشل الانقلاب فرحنا وهتفنا في الشوارع الليالي ذوات عددٍ؛ لأنَّنا كنا نرى حقائب هجرتنا الجديدة معلَّقة على فوّهات الدَّبابات التي كانت تقطع جسور المدينة، وتقطع معها قلوبنا خوفًا علينا وعلى شعبٍ وأرضٍ أكرمت وفادتنا وعلى أسرَّتنا/أوطاننا التي غدت كلّ ما لنا؛ فنخاف أن لا تتسع لنا أرضٌ بعدها.
 

غريبون نحنُ عنّا وعنكم في هذه المدينة التي لا نحلم فيها بأكثر من حياةٍ، ولن تعلموا ما الذي تفعله فينا نظرات إخوانِنا من السائحين العرب وهم يلتقطونَ صورَ السعادة في أرجاء التاريخ الحيّ، وتهامسهم عنّا، وعبارات التألّم، حتى الدعاء المجبول بالشفقة على مسامعنا؛ إذ تنزل على أرواحنَا فإنَّها لا تختلف ألمًا وجرحًا وتمزيقًا عن براميل تنزل على رؤوس الأهل هناك خلف المدى الأحمر.
 

وفي إسطنبول التي تُدثِّرُنا بالأنين.. وبجَمَالٍ لا نبصره إلا من وراء ستار حزن الغريب وبكاء الغروب، تبقى السياطُ سياطُنا التي بأيدينا وأيدي أحبابِنَا تجلدُنا بأنّنَا نسينَا، وتنكّرنَا، وأدَرنَا ظهورَنا، لكنّ إسطنبول أشغلتنا بهمومها عن أنفسنا، و لم تشغلنا عن موتنا العاجل خلف أسوار الروح هناك بموتنا الذي يمشي الهوينى هنا ولم تطفئ فينا كلُّ بحارها شعلةَ الحنين إلينا؛ إذ كنَّا نتلفّع بالثَّرى الأطهر، ولنكتشف -كلَّما ظنَّنا أنَّ لواعجنا هنا قد أغرقتنا- بأنّ اللاعجَ الأكبرَ في أرواحنا وقلوبِنا هو ما نعيشُه هناك، وكلَّمَا احترقنا هنا اكتشفنا أكثرَ بأنَّنَا مَا زلنا هناك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.