شعار قسم مدونات

نزيه

blogs - palestine
كنتُ على وشك أن أبدأ هذه الكتابة بعبارة "بدأت قصتي مع نزيه يوم …" ثم انتبهت إلى أنه لم تجمعني قصّة مع نزيه. رأيت نزيه مرّتين فقط، مرة أولى في تكريم الفائزين بمسابقة كرة قدم للصّغار، ومرة أخيرة مُمَدّدا في محراب مسجد مخيّم جنين، ساكنا بلا حراك، ودمٌ ناشفٌ على وجهه. رأيت نزيه مرتين، ثم لم يغب بعدهما.
 

جالسا في مسجد جنين الكبير، وأمامي أربعة فتية أقرِئُهم القرآن، قال ثلاثة منهم إنّ كنيتَهم ستكون "أبو نزيه". سألتُهم متعجّبا عن السبّب، فقالوا إنه اسمُ أستاذ يدرّسهُم، وأنّهم لم يحبّوا معلّما كما أحبّوه.

في جيب نزيه وجدوا مصحفا ووصيّة، لم يتبقّ منها إلا " بسم الله الرحمن الرحيم، من المؤمنين رجالٌ صدقوا…" وبقيّتُها محترِقة.

كنتُ أحد منظّمي مسابقة لكرة القدم لأشبال النوادي المحلّية. سألتُ صديقا عمّن أدعو من أحد النوادي ليسلّم الجوائز، وقال لي ضاحكا: "الأستاذ نزيه." أخذت رقمه واتّصلتُ به، وكانت المرّة الوحيدة التي رأيتُه فيها واقفا على قدميه. نحيل، هادئ الصّوت، فيه بشاشة غريبة مطمئنّة. كان من أولئك الذين تشعرُ أنّ عليهم أن يتكلّموا أكثر عن أنفسهم لكنّهم لا يفعلون.

مُمدّدا في المحراب، ودمٌ ناشفٌ على وجهه، رأيتَ فوقَه أحدَهم يبكي بحرقة. كان يبدو كمن أعدّ نفسَه كثيرا لموقفٍ مُشابِه، لكنّ إعدادَه لم ينفعه.

كان مجموعةٌ من طُلّابِه يُرافقونَه في طريق العودة من المدرسة كلَّ يوم. يُقالُ إن سيّارة غريبة شاغلتْهم يومَ اغتيالِه. مشى بعدَهم مسافة دقيقتَين، وانفجرت بجانبِه سيّارة ملغّمة. كنتُ يومَها بعيدا مسافة خمس دقائق، وبدا أن المدينة ارتجّت للحظة. تواردت الأخبار إلى الإذاعات المحلّيّة، وبدا اسم "نزيه" يتردّد فيها ويتأكّد.
 

وصلتُ البيت وصرختُ في أحد إخوتي: "الأستاذ نزيه؟" أومأ بالإيجاب، بكلّ ما يمكن لوجه طفلٍ أن يحملَه من الأسى. بكيتُ يومَها كما لم أبكِ من قبل، ولا من بعد.
 

لم أكن يومَها قد قرأتُ قصيدة درويش حيث يقول:
"إنّ السماء اليوم ناقصة .. لأنّ السروة انكسرتْ"

كانت ستكونُ أوّل ما يخطرُ ببالي حيثُ اعتراني ذلك الشّعور الخانق أنّ شيئا من السّماء استُلّ عنوة.

في جيب نزيه وجدوا مصحفا ووصيّة، لم يتبقّ منها إلا " بسم الله الرحمن الرحيم، من المؤمنين رجالٌ صدقوا…" وبقيّتُها محترِقة. كيف يمكنُ لذلك أن يحدث؟ هل حدثَ فعلا؟ أم تُراني اختلقتُه؟ لا أعرف، ولا أريد أن أعرف.. ليس مهمّا أبدا..

كانت جنازاتُ الشّهداء مراسم مطوّلة. كانوا يُدفنون دائما في اليوم التّالي، وتسيرُ الجنازة ببطء، تطُلَق فيه الشّعارات والرّصاص، وتُتلى فيها كلماتُ الفصائل، ويختلطُ فيها الصدقُ بالافتعال. استُشهِد نزيه بعد الظّهر، وصلّينا عليه بعد العصر، ومضت جنازتُه خفيفة إلا من الحزن، مُسرِعةً إلا من ثقل الوجوم.

مُمدَّدا في المحراب، ودمٌ ناشف على وجهِه، مضى نزيه كأخفّ ما يمضي الشّهداء، وكأثقلِ ما يتركونَ بعدَهم من حزن.

أشار أحدهم إلى امرأة مجعّدة الملامح: "أمُّه". لا شكّ أنّها أمضت شهورا تُحدّث جاراتِها ومعزّيها بحسرة عن أنّه فاتحَها في أمر "بنت الحلال" قبل استشهاده بثلاثة أيام. ربّما فعل، وربّما لم يفعل، لكنّها توقنُ أنّه فعل، وهذا يكفي. كلُّ شهيد يمضي قبلَ أن يفعلَ شيئا مهمّا، ولا أحد يعرف هذا الشيء إلا أمُّه. ربما لا يعرفُه هو نفسُه. "إنّ السماء اليوم ناقصةٌ .. لأنّ السروةَ انكسرتْ"

لم يتغيّر عالمي بعدَ استشهاد نزيه. كنتُ أصغرَ من أن يحدثَ ذلك. أمضيتُ يومَ جنازتِه باكيا صامتا. دعوتُ الله بحرقة أن يموت "شارون" في اليوم التّالي. لم يحدث ذلك بالطبع. مات متعفّنا بعدَها بسنوات، بعدَ أن أصبحت مطالبي أكبر وأسئلتي أصعبَ وأفراحي أقلّ. يقولون إنّ الأشياء تأتي في وقتِها. هذا مؤكَّد، تأتي في وقتِها .. في وقتِها هي، لا في أوقاتنا نحن، ولا أدري إن كان في ذلك أيُّ عزاء، ولا أدري إن كان هذا هو ما جعلني أقلّ ثقة بالأشياء.

سمعتُ بعدَها الكثير عن نزيه. عن دورِ هذا الأسمرِ النحيلِ في المقاوَمة. لم يكن ممكِنا لشيءٍ يُقالُ بعدَها أن يجعلَ استشهادَه أكثر وَقعا. قيلتْ أشياء كثيرة للتاريخ، لكنّ تاريخه لديّ كان قد اكتمل.

مُمدَّدا في المحراب، ودمٌ ناشف على وجهِه، مضى نزيه كأخفّ ما يمضي الشّهداء، وكأثقلِ ما يتركونَ بعدَهم من حزن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.