شعار قسم مدونات

يغفو الشغف.. يصحو الحنين!

blogs-الحنين

أشعرُ نفسي ثقيلًا، شيءٌ غامض. كأنّني فكّرتُ في كلّ ما في العالَم. كأنَّ أعباءَ الفلاسفة، وهمومَ الشعراء كلِّها، كانتْ في صدري. أسيرُ في شارعٍ فرعيّ مُفْتقدًا قطعةً من قلبي، أقفُ مقابلًا جداريّةً على جدارٍ متهالك، زادَها حزنًا ورقّة، مكتوب "كلّ الدروب الفارغةْ تشْبهكْ أنتْ.. لا لي وطنْ عقبك، ولا لي مدينةْ". أغتصّ، ثمَّ أُكمل.. بعيدًا عن الوقت، وقفزًا على الذكريات.
 

خيانةٌ كبيرة لكيان الذاكرة، لكنّها خيانةٌ ناقصة، أشبهُ برغبةٍ مُضْمَنةٍ بالانفلات من هذه الخيانة. رغبةٌ في الرضوخ، والسّماح للأشياء أن تأتي كاملةً، في وقتها، ومكانها، وأنسبِ ظروفِ مجيئها. يقول بول أوستر "الذاكرة: المساحة التي يمكنُ أن يحدثَ فيها الأمر نفسه مرّتين". فآتيها مرةً ثانية، أُفلتُ زمامَ أمري، أتخلَّى عن نضالي المشفوقِ عليه وأتركُ قلبي يعيشُ كاملَ إحساسه، بكلّ التفاصيل الصغيرة. الحياةُ لا تفوِّتُ الفرص، ولنْ أفوِّتَ فرصةَ أن أعيشَها كاملةً بكلّ ما فيها: باليأس، والحزن، والنقائضِ والأضداد. كاملةً، دونَ أنصاف.
 

كنتُ مؤمنًا في السابق، أنَّ الأشخاص يمنحونَ الأشياء -أيَّ أشياء- روحًا ويبثُّونَ الجمال في التفاصيل التي لا يهتمُّ لها أحد. لن أقولَ أنّني عرفتُ ذلكَ جيّدًا الآن وازدادَ إيماني به، لا، هو هو ما يزال. لكنّني جرّبتُه! وهذا أصعبُ من تثبيت قناعةٍ أو ازدياد إيمانٍ بشيءٍ ما. هؤلاء، أقربُ مِن الأصدقاء وأبقى مِن الأحبّة، أسمِّيهم: صُنَّاع التفاصيل أو أقاربَ الروح.
 

يا الله، ما أعجبَ دورة الحياة! كنَّا نستيقظُ صانعي مُعجزاتٍ، صرنا نغفو كومةَ أحزان. كأنَّ العالَم لا يسعنا

لا أدري إذا جرَّبتُم شيئًا كفقدانهم أو رحيلهم، لكنّني سأصفُه. يبدو العالَم خابيًا، والأشياء ميتة، كأنّها معطّلة، الشوارعُ التي سِرْنا بها لمْ تعُد شوارعًا، صارتْ زوايا مُقفرة، سِرْنا في كلٍّ منها حتّى الثمالة، تلفظُنا الآن وتجحدُ مرورنا، نعرفُ كلَّ حفرةٍ فيها أينَ تكمُن. كلَّ تفريعةٍ إلى ماذا توصِل وكلَّ نقطةٍ، نعرفُ إذا كانتْ تزدحمُ أيّامَ العطلْ، أم تحافظُ على جريانِها.

مقاهينا صارتْ خاويةً يا رفاقَ القهوة، تنتظرُ الشتاء. حتّى الشتاء، أحبُّ الفصولِ إلينا، صرتُ أخشى قدومَه. ماذا نفعلُ الآن إذا لمْ نُشعل حطبًا، ونتدثَّر بالقصص والحكايات؟ كيف نستنشقُ المطر، ونستظلَّ بأكتافِ بعضنا، أسانيد، كأنّنا خُلقنا لبعض؟ ماذا سيعني لنا الليل، دونَ أماسينا الطويلة. تسامُرَنا بالأحزان. وانزواءَنا في زوايا القلوب، كلٌّ يتّجهُ إلى الآخر، مُثقلًا بآلامه التي لا تتجاوزُ قدْرتنا على التحمُّل.
 

الأشياء تفقدُ معانيها، كلُّ التفاصيل تحملُ أرواح الراحلين، الأزهار، العشب، الرياح، والشمس. الدروب، القهوة، الكتب، العالَم الخارجيّ، وحتّى دواخلنا. كلُّها تتنفسُ وجودَكم. تصبحُ الحياةُ كلّها بطَعمِكُم. في مرحلةٍ أخرى، بعدَ اكتمالِ الحزن تجتاحُنا لا مبالاةٌ قاسية، نتثاقلُ على الحياة، يغزونا العجْز، ولا نفكِّرُ سوى في تمامِ أيَّامنا وانقضائها سالمة.
 

يا الله، ما أعجبَ دورة الحياة! كنَّا نستيقظُ صانعي مُعجزاتٍ، صرنا نغفو كومةَ أحزان. كأنَّ العالَم لا يسعنا. لا أدري لماذا أصفُ كلَّ هذا، هل يُشعرنا تجاهلُ الكتابة بالندمِ لاحقًا لأنّنا لم نوثّق حتى دواخلَنا! ربما. يقول ميلان كونديرا "اللحظات الحاسمة في تطوّر المحبة، لا تنبثقُ دومًا من أحداث دراميّة، بل هي في الغالب نتيجة ظروفٍ لا معنى لها إطلاقًا في النظرة الأولى".
 

هؤلاء، هم الأشخاص الذين تودُّ لو أنَّ العالَم كان منحوتًا على هيئة ابتساماتهم في اجتماعاتكم، تشعرُ أنَّك ترغبُ لو تعانقُ كلَّ من في الأرض، وتحضنَ السماوات. يغدو قلبُك حديقةً، لفرطِ ما هم أزهارٌ بديعة. روحٌ تسكنُك، تغمرُك بطمأنينةٍ مخيفة كأنَّ الدنيا كلّها بخير. كونوا لهم.. كونوا لهم.
 

تعاهدْنا فيما قبل -ربما دونَ علمنا- على أن نرى أنفسَنا في السماء -الشيء الوحيد الذي لا يفارقُنا- في القمر، والغيم. أو كما يقول إبراهيم نصر الله "لعلّنا أعمدةُ الكون". أجلسُ أتأمَّلُ القمر، يحفُّه الغيم، وسْطَ السماء. أتذكَّر "على البال.. كلّ التفاصيل.. على البال".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.