شعار قسم مدونات

الكتابة على جبل

blogs-الكتابة

عندما فرغتُ من كتابة "تغريبة منصور الأعرج"، صدرت عن الآداب، قلتُ لنفسي: لقد أنجزت ثلاثية عن الجبل. في العام ٢٠١٣ تتبعت سيرة "الخزرجي" على جبال اليمن الأوسط، قبل أن يختفي مفتتحاً الباب لسيرتين أخريين على الجبل. ظهر الخزرجي بعد ذلك بعام ليدخل في "جدائل صعدة"، على جبال اليمن الأعلى. ثم سيخوض حروباً غامضة على الجبال الغربية المطلة على البحر، في ثياب منصور الأعرج، الثياب الزرقاء المخططة.
 

على الجبل كنتُ أملك القليل من الكتب والكثير من الخيال، الكثير من الليل والقليل من الشمس. توقفت عند الليلة "٦٠٠" من "ألف ليلة وليلة"، كنت في الثالثة عشرة، ولم أصل إلى الليلة الأخيرة قط. وجدتُ أن ذلك يكفي، فقد صار بمقدوري أن أروي الليالي الـ٤٠٠ الباقية، وأن أغير نهاية الحكايات كما كانت أمنية إيتالو كالفينو.
 

خرجت شخصيات ليالي العرب من الكتاب ودخلت في القرية، فرحتُ أكتب عنها وأصادقها، ولم أكن قط بحاجة لرؤيتها. تقول أسطورة صينية إن ملكاً طلب من فنان أن يرسم تنيناً، فقال له الفنان إنه لم يرَ قط تنيناً من قبل. طلب منه الملك أن يذهب إلى العزلة تاركاً لإلهامه المهمة. انظر إلى نفسك وارسم التنين، أخبره. في يوم وقف التنين على نافذته وصاح به: أنا التنين، هيا قم وارسمني. صعق الفنان وفقد وعيه، واختفى التنين. وهكذا لم يستطع الفنان أبداً رسم تنين حي.
 

 في الصحراء لا يملكون سوى الخيال، والإحساس بالضياع، فيواجهون المتاهة كلها بالشعر، بوصفه أعلى درجات المقاربات الخيالية للعالم

إذا كانت الرواية تصعد من قاع المجتمع، كما يذهب باختين، ففي الجبل تخرج الرواية من وادي الجن، أو وديان أخرى شبيهة. جلستُ مع ابن شهيد الأندلسي في "التوابع والزوابع"، وتعرفت على شيطانه زهير بن نمير، وتلصصتُ على ما يقول أحدهما للآخر في ذلك الوادي. سأزعم أن ابن شهيد تعرف على "زهير" في واحدٍ من جبال قرطبة. إذا كان لديك القليل من الحياة والكثير من الجبل لن تتعرف على مدام بوفاري، ولا شايلوك. ستجد نفسك منقطعاً لرسم تنين لن تراه قط، أو سيصلك صوت زهير بن نمير، أو ستخترع قرية على كما فعل خوان رولفو.
 

فاضت شخصيات ألف ليلة وليلة، وملأت الأرجاء. في مسجد القرية عثرت على "بدائع الزهور في وقائع الدهور" ولم أجد له مؤلفاً. سألت الحاج هزاع، ولم يكن من أحد يتذكر المسجد سوى الحاج هزاع، فقال لي: كتبته الأرواح. وأنا عائد من المدرسة صبيحة اليوم التالي، كنت أحدث نفسي عن الطريقة التي تكتُب بها الجن. بقيَ اعتراف امرئ القيس ناقصاً عندما قال: تخيرني الجن أشعارها، فأختار من شعرها ما أريدُ. لا بد وأن الجن تكتبُ أيضاً، لا توحي وحسب. ومن المؤكد أن الحاج هزاع كان محقاً.
 

في الصحراء والجبل إذا جلست للكتابة فلن تجد، في تلك الغيابات، سوى الجن والإله. تساءل وول ديورانت في "قصة الحضارة" عن الشعراء المتجايلون بأعدد كبيرة في الزمن نفسه على أراضي فارس وصحراء العرب. في تلك الصحراء لا يملكون سوى الخيال، والإحساس بالضياع، فيواجهون المتاهة كلها بالشعر، بوصفه أعلى درجات المقاربات الخيالية للعالم، سيعتقد ديورانت. سيخلقون معاركهم ويسردون حياة موازية.

"اقرأ تلك اللعينة" قال الروائي الكولومبي موتيس لصديقه ماركيز، ملقياً أمامه برواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو. كان رولفو يعيش على جبل، أو بالقرب منه، هناك عثر على نصه الفريد بين جبال وسهول ومخلوقات سريعة التشكل، سريعة التلاشي. سيعترف ماركيز بما فعلته "بيدرو بارامو" به، وكيف دلته إلى اختراع ماكدوندو، القرية الخيالية التي ستصبح أكثر شهرة من عاصمة كولومبيا. الشيء نفسه فعله ابن شهيد الأندلسي عندما اخترع وادي الجن وزهير بن نمير، وراح يسارر شيطانه ويتلصصان معاً على الشعراء والمثقفين الذين قضوا في الأزمنة الغابرة، ويعيشون مع "زوابعهم". فقد كان الزوبعة ملكاً للجن، وبالضرورة ملكاً للجن الشعراء والرواة.
 

لماذا اخترع رولفو ذاك اللون من الكتابة، ستسمى فيما بعد الواقعية السحرية؟ كان سيرفانتس، في دون كيخوته، قد وضع الكائن البشري في مواجهة مباشرة مع قوى طبيعية غير مستقرة وبلا ملامح، مواجهة عزلاء بين النهائي واللامحدود. إلى أن جاء فلوبير بعد قرنين ونصف من الزمن لينقل الرواية -سيمسيها هيغل: ملحمة الطبقة الوسطى- إلى المنازل والأسواق. عبر أطوار عديدة عبرت الرواية البلزاكية/ الفلوبيرية أطواراً عديدة حتى استلمها اللاتيني رولفو وأعادها مرة أخرى إلى مكان قريب من دون كيخوت: صراع المحدود مع اللامرئي، أو مع اللامتعين. سيعترف مويان، الصيني الأوسع شهرة، بأنه قضى ٢٠ عاماً محاولاً الإفلات من الماركيزية السحرية، من ذلك اللون السحري من الصراع.
 

تركتُ الخزرجي، أو تركني الخزرجي، في صورة منصور الأعرج على جبل بالقرب من عدن. أخبروه أن عدن هي مدينة الله، فهجر القصص التي وعدته بسردها. غادر في ساعة ما، ساعة تقع إلى الغرب من منتصف الليل. جلست إلى الحكاء الذي يرافقني، وسألته ما إذا كان من الممكن أن نغادر الجبل وننزل إلى السهل أو المدينة. لم يغب النهر عن نصوص فرجينيا وولف، وربما ولا في أي نص، إلى أن ألقت بنفسها في نهر قريب من منزلها وماتت. وحتى وهو يقول، بشرود ملحوظ: إن جنيف هي مدينتي، لم تظهر جنيف في أعمال إبراهيم الكوني بل الصحراء.

ودخل طمي النيل بين أصابع الطيب صالح، في طفولته، فبقي النيل سائلاً في كل نصوصه، تقريباً. في مواسم الهجرة نحو الشمال كان النيل يغيب ويحضر إلى أن ختم المشهد كأحد أبرز الأبطال. ففي النهاية لم تكن طيور الطيب صالح هي التي تهاجر نحو الشمال وحسب، بل النيل القادم من وسط أفريقيا شوهد ذاهباً في اتجاه المتوسط، مسدلاً الستارة.
 

لم يعد الكوني يرى الصحراء منذ زمن، وربما لو عاد ورآها لن يتعرف عليها أو سيفقد وعيه أمامها كما حدث للفنان الصيني أمام التنين.

أريد هنا الإشارة إلى الطبيعة المبكرة وما تتركه في عقل الفنان، والروائي تحديداً، فقد كانت نصيحة ساراماغو في "الذكريات الصغيرة" حاسمة: دع الطفل الذي بداخلك يتحدث. بالطريقة تلك اعترف ماركيز، قائلاً: إن الجنرال أوريليانو بوينديا الذي افتتح به المشهد الأكثر شهرة في "أربعين عاماً من العزلة" هو جده الذي اصطحبه في طفولته، بالفعل، ليريه الثلج.
 

ربما عمد ماركيز إلى اختراع ماكوندو لتتناسب مع تجاربه في الطفولة. في مذكراته "عشت لأروي" يعترف ماركيز بتساؤلاته المبكرة "لماذا لا يكتب روائيو أميركا الجنوبية مثل وليام فوكنر". كان وليام فوكنر قد اخترع جمهوريته الخاصة، التي ستعيش فيها شخصياته وعوالمه الروائية: "يوكناباتوفا". وهي الجمهورية التي سيحولها ماركيز إلى قرية "ماكوندو" ربما للأسباب ذاته: البحث عن الأرض التي تشبه الطفولة.
 

فلم تكن جنيف قط صورة للطفولة التي سيستمر الطفل الكبير "الكوني" في الحكاية عنها. لم يعد الكوني يرى الصحراء منذ زمن، وربما لو عاد ورآها لن يتعرف عليها أو سيفقد وعيه أمامها كما حدث للفنان الصيني أمام التنين. فقد صارت شيئاً آخر في أعماقه، شيئاً لا تُنتظر رؤيته ولا يستقر. شيئاً يشبه تمثال "روح ٧٦" لدى بول أوستر، حين وقف أمامه في طفولته، وما سيفيض به من حالات إلهامية في لاوعيه بعد ذلك. أو، كما قلتُ، سيشبه نهر فرجينيا وولف، وبحار جوزيف كونراد، وسفن تشارلز ديكينز، وأندلس درويش..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.