شعار قسم مدونات

ضريبة التعامل الراقي

blogs - peo
(1)
كتبت فتاة في مدونتها: "ظللت أعامل من حولي برقة ولطف وحب وإخلاص وتفان، ثم فوجئت بأن من كنت أعاملهم قد فهموا بعقولهم السقيمة أن لطفي سذاجة ورقتي ضعفا وحبي فراغا".. واستدركت بالقول: "لكن تلك الصفات كانت وما زالت مطبوعة في نفسي ودواخلي لدرجة لا أستطيع التخلي عنها كردّ فعل لفشلي في الحصول على من يفهم القيم السوامق".

ولم يكن ما كتبته الفتاة عجيبا بمثل ما كان التعقيب الذي نشره أحد قراء مدونتها.. فقد قال لها ما ملخصه: إنك جوهرة ثمينة قلّ أن يجود الزمان بمثلك، فاصبري على ما أنت عليه من السمو، واصبري على (مر الجفا) ممن لا يفهمون من الحياة وعنها إلا ما بين نواظرهم الحولاء.. ولو سمح لي الوقت لعلقت على آهاتها بالقول: إنك يا آنستي لم تدفعي سوى ضريبة التعامل الإنساني الراقي الذي لا يستحقون سدسه- والسدس كثير- ولكن حسبك أن تتعلمي من التجارب.

إنهم يتعاملون في أوساط اختاروها بعناية حسب قولهم، لكنهم فوجئوا فيما بعد-أن مختاراتهم تلك لم تكن أفضل حالا؛ حين لم تسمح بإعفائهم من دفع ضريبة التعامل الراقي.

(2)
إن الشخص الفاشل في حياته الشخصية وفي علاقته بالناس- لا يستظل إلا بظل (الشك) حيث لا يرى إلا (الشوك) في الورود، ويأبى أن يرى فوقها (الندى) إكليلا، كما أنشد إيليا.. بل إن فشله في الحياة العامة وفي التواصل مع الآخرين- يمنحه فرصة إضافية للاستظلال بـ(سوء الظن) الذي عادة ما تحمله النفوس التي تضيق بروحها التي بين جنبيها فضلا عن الأرواح التي تحملها الأجسام القريبة منها.. وقد قيل: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، وصدّق ما يعتاده من توهم.. ولكأن الشاعر يقرر قاعدة لرصد السلوك السلبي غير المنظور- تقرر أن سوء الظن إنما يصدر من سيّء الفعائل وقبيحها.. ولله درك يا متنبئ.. لكن العجيب في أمر اللغة جمعها بين (الشك) و(الشوك) في ناحية الأذى النفسي والبدني والفعل السلبي الخاطئ.

(3)
طالب بجامعة كبيرة، كان صديقا لأحدهم.. أكمل ذلك (الصديق) بينما تخلف هو أكاديميا.. وكان صادقا في (صداقته) متفانيا.. لم يكن يرى الحياة إلا من خلال عيني صديقه الذريّ كما كان يصفه.. ثم انتهى كل ذلك إلى (عدم)! شكا إليّ بحرقة وأسىً، حتى كدتُ أتعاطف معه، لولا أنني تذكرت من مرّ مثله على دروب الحياة الوعرة.. قلت له: كنتَ مخطئا؛ فليس من العدل أن تضع في سلته البيض كله ثم تنتظر السراب.. كان ينبغي عليك الاحتفاظ برصيد مناسب من (الجهل) فله أوقات كما للحلم مثلها! وقلت له ما كنت أود قوله للفتاة: (إذاً ستدفع ضريبة التعامل الإنساني الذي تتبناه)..

(4)
زارني أحد القراء.. تفرست فيه سعة الأفق وبعد النظر وثقوب الرؤية.. بادرني بفتح بعض الملفات الاجتماعية الساخنة.. فقلت في نفسي: يبدو أن هذا (الصيف) سيكون حارا كما توقعت جهات الاختصاص.. أخذ يشكو بألم يصاحبه فكر، وأسى تحتويه تجارب.. وكان ملخص كلامه أن مستوى (التعامل) ليس مرضيا خاصة من جانب (الكبار) أو من يرون أنفسهم كذلك.. قلت له: يبدو أن خواطر ما تتوارد إلينا بنفس القدر.. كان زائرا رائعا، أفادتني تجاربه الثرة وأفقه المحيط وتواضعه الجم.. فقد كان كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع..

(5)
لم تكن سطور الفتاة بمنآى عن شكوى الطالب الجامعي، الذي لم يكن هو الآخر بعيدا في مضمون شكواه- عن تأملات زائري العزيز.. إنهم جميعهم في ظل أو آخر من ظلال الحياة المتحركة.. وهم جميعهم- يريدون التحرك بإيجابية مع حركة الحياة تلك.. يريدون التفاعل والتناغم مع حركتها.. لا السباحة عكس التيار.. لكنهم كلهم أيضا- يواجهون صعوبات ليست من صنع أيديهم، وإنما في بيئاتهم التي يعيشون فيها.. وهي بيئات يصعب فيها التعايش المنتج الفعال..

يواجهون أجساما غريبة تسيء إلى من يحسن إليها ويكرمها ويقدر إنسانيتها.. إنهم يتعاملون في أوساط اختاروها بعناية- حسب أقوالهم- لكنهم فوجئوا- فيما بعد- أن (مختاراتهم) تلك لم تكن أفضل حالا؛ حين لم تسمح بإعفائهم من دفع ضريبة التعامل الراقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.