شعار قسم مدونات

القرآن وإساءة الفهم

Petra Sandles (L), vice president of the Bavarian State Office of Criminal Investigations (LKA), hands a Quran from northern India (ca. 17th century) to Abdollah Nekounam Ghadiri, Consul General of the Islamic Republic of Iran, in Munich, Germany, 21 July 2016. The State Office of Criminal Investigations in Munich has returned over seized Islamic manuscripts and books to the Iranian consul general, the Bavarian State Library and a group of heirs.
بعيداً عن جدلية هل القرآن كلام الله أم كلام محمد، فإن القرآن كان وسيظل لمدى غير معلوم هو المدونة الأولى والأهم في تاريخ العرب. فلم يعرف العرب كتابا قبله، ولم يعرفوا كتاباً أكثر تأثيرا في حياتهم منه، وفي غالب ظني فإن القرآن هو الكتاب الأكثر تأثيرا في تاريخ الإنسان كله، إذا ما اعتمدنا معايير مايكل هارت في كتابه "مئة عظيم في التاريخ".
 

لقد غير هذا الكتاب "القرآن" شكل العالم بطريقة حاسمة منذ ظهوره، وأحدث فيه تحولات عميقة على المستويات كافة، بصورة لا ينافسه فيها حتى التوراة نفسها، على الرغم من تقدمها عليه زمنيا بمئات السنين. فلا غرابة إذاً أن تصبح المدونة القرآنية في مرمى البحث والنقد والشك من قبل المتلقين لها بمختلف مستوياتهم وانتماءاتهم.
 

ومثلما أن في المسلمين من يسوق -عن جهل- صورة سلبية للقرآن في موضوع الحرب والسلام على وجه التحديد، فإن هناك الكثير من غير المسلمين ممن يرحب بهذا التشويه عن عمد

لهذه المنزلة الخطيرة التي يحتلها القرآن في العالم فإنه يحتاج إلى اهتمام خاص من قبل الجميع، بما فيهم أولئك الذين يعدونه كلاماً بشرياً. إن من واجب هؤلاء أن يسهموا في التعرف على حقيقة هذا الكتاب بجهود موضوعية بعيدة عن التحيز الثقافي والأيديولوجي المسبقين. ليس لأنه كتاب المسلمين كما ألمحت، وإنما لأنه أحد الكتب التي تسهم بقوة في تشكيل العالم منذ ظهوره وحتى اليوم. وفي مقدمة تلك المسائل التي تحتاج إلى تحقيق علمي موضوعي غير متحيز في القرآن نظرية الحرب والسلم في القرآن. لأن سوء الفهم -واسع الانتشار حول هذه المسألة- يسبب ضرراً كبيراً للجميع، مسلمين وغير مسلمين.
 

ومثلما أن في المسلمين من يسوق -عن جهل- صورة سلبية للقرآن في مجال الحقوق والحريات، وفي موضوع الحرب والسلام على وجه التحديد، فإن هناك الكثير من غير المسلمين ممن يرحب بهذا التشويه عن عمد. نقول ذلك لأننا نعرف كيف أن هذا البعض غير المسلم يتوخى الحذر والدقة حين يتحدث عن أي مسألة تتعلق بكتابه المقدس أو بأي مدونة من مدونات التراث الإنساني، لكن بمجرد أن يتعلق الأمر بالقرآن فإن التساهل يصبح هو عنوان الباب، هذا إذا لم يعمد إلى الكذب والتلفيق الصريحين.
 

من الأمثلة البارزة على هذا التساهل أو التدليس ما يروجه البعض عن موقف القرآن من استخدام العنف تجاه المخالفين. معتمدين على نصوص قرآنية منتزعة من سياقاتها العلمية المفترضة، مثل قوله "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" التوبة 29. حيث يعدون هذا النص توجيها مفتوحاً لقتال كل المخالفين ممن تنطبق عليهم الأوصاف السابقة، في كل زمان ومكان.
 

والطريف أن هذا التأويل محل اتفاق بين المتطرفين المسلمين وبين خصوم القرآن نفسه، وهو بالطبع تأويل متعسف يليق بالجهلة ولا يليق بالمثقفين، لأن المثقف -أي مثقف- يدرك أن دلالات الألفاظ والعبارات لا تفهم خارج سياقاتها وشروط إنتاجها. هذا بالنسبة للكتب العادية فما بالك بكتاب مثل القرآن، يعد الكتاب الوحيد بين الكتب المقدسة المعروفة الذي يضع شروط قراءته في متنه.
 

من الواضح أن الآية السابقة تتحدث عن حالة تاريخية محددة، هي حالة أهل الكتاب الذين واجهوا الجماعة الإسلامية الجديدة، ودخلوا في حرب معها، ولا تقصد إلى تعميم الحكم على كل من اتصف بأوصافهم خارج ذلك الزمان والمكان. يعرف ذلك بمجرد الاطلاع على نصوص قرآنية أخرى توجه المسلمين بضرورة التعامل الحسن مع أهل الكتاب، وجواز الاختلاط بهم اختلاطا يصل إلى حد المصاهرة.
 

هذا فضلا عن النصوص القرآنية الصريحة التي تنهى عن إكراه الآخرين على الدين بأي من صور الإكراه. ولو أن الجزية كانت بهدف الضغط عليهم للدخول في الإسلام لكانت شكلا من أشكال الإكراه الذي يناقض قوله: لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي.. فما الذي صور لهؤلاء أن الآية السابقة تعد توجيها بقتل المخالفين واضطهادهم في كل زمان ومكان؟!
 

أي مثقف يدرك أن دلالات الألفاظ والعبارات لا تفهم خارج سياقاتها وشروط إنتاجها. هذا بالنسبة للكتب العادية فما بالك بكتاب مثل القرآن

يجيب المتطرفون المسلمون بالقول: إن الآية السابقة ناسخة لما عداها من آيات الصفح والحلم واللين مع المخالفين، ويؤكد الكارهون للقرآن هذا المعنى بقولهم إنها صورة من صور الانتهازية المحمدية. فحين كان محمد ضعيفا مضطهداً كان حديثه عن الصفح والحلم، وعندما اتسع نفوذه وأصبح قادراً على اضطهاد المخالفين صار يوجه باجتثاثهم وتصفيتهم. وهذا كل شيء! وكلا الصوتان اختار التأويل الأقرب إلى طبيعته ومزاجه، لا إلى منطق العلم والبحث المنهجي.
 

ولو أنه انحاز لمنطق العلم لتوقف صامتاً عند السؤال الأول في هذه المسألة: كيف عرفت أن هذا النص ناسخ لما سواه، وأنت تعلم أن القول بالنسخ قائم على الاجتهاد لا على الإخبار، ولم يتفق المؤلون على نسخ آية واحدة في القرآن! وحتى لو أنه قام على الخبر فمن أين لك خبرا متواترا بأن هذه الآية نزلت بعد تلك، وأنت تعلم أن من شروط القول بالنسخ الضرورية معرفة أن الآية الناسخة نزلت بعد الآيات المنسوخة؟!
 

بل إن كلا الصوتين يتجاهل عن عمد التوقف عند دلالة إعادة ترتيب آيات المصحف على غير ترتيب النزول، مع أن دلالتها واضحة، هي القول بأن ترتيب النزول ليس شرطاً في فهمه. وهو الكتاب الذي كان يضع شروط فهمه في متنه كما قلنا، فيشير إلى قواعد اللسان مرة "بلسان عربي ويشير إلى قواعد منطقية مرة أخرى "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ". ولولا ضيق المساحة لذكرنا العديد من أسرار هذه المسألة، ولعلنا نطرق بابها في مدونات قادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.