شعار قسم مدونات

فسيلة في زمن الحرائق الكبرى

YEARENDER 2016 APRILSyrians at the site of airstrikes in the rebel-held neighbourhood of Bustan Al Qasr in Aleppo, Syria, 28 April 2016. At least 34 people were killed by shelling and missile fire in eppo, the largest in the north of the country, the Syrian Observatory for Human Rights, or SOHR, reported on 28 April. Among those were at least 20 people killed by the airstrikes of warplanes, the identity of which is still unknown, in the neighborhoods of Bustan al-Qasr a

تشير كارين آرمسترونغ؛ المؤرخة والباحثة في تاريخ الأديان، في حديث لها إلى القاعدة الذهبية "The Golden Rule" والتي تحدد نمطا خيّرا من علاقة الإنسان بجاره الإنسان، وهي القاعدة التي وُجدت وتطورت في مختلف الأديان والمعتقدات بصيغ عديدة، تحضّ الإنسان فيها على تمني الخير للآخرين كما لو كان له، وعلى عدم إيقاع الأذى بأحد حين لا يتمنى أذى مماثلا لنفسه، وفي الإسلام وُجدت هذه النصيحة مضمنةً في الحديث الشريف "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
 

تؤكد آرمسترونغ أن الاعتناء بهذه القاعدة بجدية يجب أن يكون مهمة الجيل الحالي، ويهذا يمكن جعل العالم مكانا أفضل ومحتملا للعيش، هذا العالم الذي خرّبته الكراهية ودمرته الحروب، بينما تنبه في الوقت نفسه إلى أن تحقيق هذا لن يكون بسهولة أو بانتظار سلبي لنسمة من نسمات الحب تهب على البشرية فتجعلهم متحابين بشكل مفاجئ، إنما بالحوار الدائم الدؤوب، والتركيز على المشترك البشري الواسع، ومحاولة فهم النصوص الدينية استنادا على هذه القيمة الخيّرة العليا، مع قيم أخرى من عدالة وحرية، وبهذا يتم التأسيس لبيئة متسامحة يمكن فيها للإنسان أن يعيش جنبا إلى جنب مع الآخرين، متساميا فوق الأنا، ومحلّقا فوق الرغائب الذاتية بخفة.
 

من السهل التأكيد على أصالة هذه الفكرة في النفس البشرية، التي يمكن تسميتها بـ"النفس الطفلة"، والتي لوثتها الأحقاد واستنزفتها ثارات ومظلوميات تراكمت عبر حروب تاريخية ساحقة، وجور حاضرٍ مستمر، ويقلقها مستقبل يُبنى على رمال متحركة، ومع ذلك، تستمر هذه الفكرة في البقاء بشاعرية في القصائد والآداب والأمثال والوجدانات الشعبية، وفي الحنين الغريب لكل إنسان نحو عالم طيب، يشبه حكايات النوم التي كانت تحكيها الجدات في ليالي الشتاء الطويلة.
 

ينظر الإنسان حوله ويتساءل وسط الخراب، ما الذي يمكن عمله؟ وهل يمكن أن تصمد الطيبة شيئا من وقت بين رصاصتين؟

لكن، وفيما يبدو، فهي فكرة ممكنة التطبيق على المستوى الشخصي ومحيطه الصغير فقط، ولا ينبغي توقع التحقق الكامل لهذه القاعدة المشتهاة والحلم الجميل على مستوى بشري كامل، في حين لم تتمكن كل الرسالات السماوية الكريمة، والآيديولوجيات المحمولة على مقولات حالمة من جعلها قيمة بديهية نهائية على مستوى أفقي أكبر، وسوى التأثير على الأشخاص، وشحذهم كأفراد في سباق الترقي نحو الفضائل، لم يكن هناك تأثير جمعي يُذكر على أمة من الأمة، خلا بعض الأمثلة المشرقة، لا تلبث أن تنطفئ سريعا في الظلام البارد والمبهم للتاريخ.
 

إن هذه الحقيقة رغم ما بها من ألم وخيبة، تؤكد على الفهم الديني للحياة في أنها ميدان نضال واجتهاد، وأن ثمار السعي الدنيوي قد لاتنضج، وأن الكمال في الدنيا لن يكون، وأن المدينة الفاضلة لن يبنيها أحد على ظهر البسيطة، وستستمر العداوات والحروب، قال تعالى في محكم التنزيل"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"، ولن يكون البشر يوما على قلب رجل واحد، رغم التفكير الرغَبي الذي تمده بوقود البقاء رهافات الشعور الإنساني.
 

والحياة غير كاملة ويعتورها النقص الشديد، ولا تنبغي لها المثالية، ولو كانت استرسالا للهناءة والرغد لما فُهمت، فالأشياء تُفهم في وجود أضداداها. والقرآن الكريم يتحدث عن أمم بادت رغم إيمانها، عن أصحاب الأخدود الذي قضوا في النار ذات الوقود، وعن هابيل الذي ظلّ طيّبا في وجه قابيل لكنه قُتل أيضا، في ترسيخ لضرورة التسليم بالقدر في نهايات الأمور، والتأكيد على العمل لتحسين الشروط الإنسانية في العيش، وعلى المحاولة المستمرة لنسخة أفضل -ربما لن تتحقق- للحياة، وعلى الإيمان في عالم كل شيء فيه يدعو لعدمه.
 

ينظر الإنسان حوله ويتساءل وسط الخراب، ما الذي يمكن عمله؟ وهل يمكن أن تصمد الطيبة شيئا من وقت بين رصاصتين؟ وهل يمكن ليّ عنق الزمن، وعكس الساعة للوراء.. فيخسر الانقلاب، ويعود اللاجئون لدفء البيوت والذكريات؟ هل يمكن أن تتأخر الشمس في المغيب قليلا من أجل انتصار ثائر على أكتافه بندقية ما احتملها إلا ليصد العدو؟ وهل يمكن أن تنجح القاعدة الذهبية في إعادة النضارة لما تعفن، وبهجة الألوان للأمداء الكالحة؟
 

هذه أسئلة القلب الحي، والذي لا يملك سوى العمل تحت ظل الأمل، القلب الذي يستمر في هروبه للأمام، والذي لا يزال رغم كل شيء يزرع فسيلة في زمن الحرائق الكبرى، مرة تلو أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.