شعار قسم مدونات

عندما تحولت من مبرمج إلى صحفي

blogs - jarrar
قليلة هي اللحظات في حياة المرء التي يشعر فيها أنه يعبر محطة مفصلية وجوهرية في حياته، وأن حياته بعد هذه المحطة لن تعود حتما كما كانت قبلها .. وكذلك هي تجربتي مع الجزيرة..

فرغم كثرة الأحداث التي مرت على ذاكرتي المتعبة فإنني لن أنسى ما حييت.. الأول من آب ألفين وأربعة.. اليوم الذي أصبحت فيه فردا في أسرة الجزيرة.. مالئة الدنيا وشاغلة الناس..

لم يكن الأمر حينها مجرد نجاح في دخول المؤسسة الإعلامية الأهم في العالم العربي إن لم يكن في العالم كله.. بل بما مثله لي في تلك الأيام من انقلاب كامل في مسار حياتي.. لماذا؟.. دعوني أخبركم قصة قصيرة عني.. فقبل أقل من عام على دخولي بوابة الجزيرة كنت غارقا في عالم آخر بعيد تماما عن مهنة المتاعب.. كنت أعمل في شركة صغيرة لتكنولوجيا المعلومات.. فأنا وللمفارقة أحمل شهادة البكالوريوس في علم الحاسوب!
 

ما ساعدني على حرق المراحل في مجال الإعلام أنني دخلت إلى الميدان مباشرة وبدون مقدمات نظرية..

ولذلك قصة أخرى يطول شرحها.. المهم أنني كنت حينها أشرف على بيع أجهزة الحاسوب وعمل صيانة لها وأعطى دورات متنوعة في تطبيقات الحاسوب وبرمجياته الشهيرة.. قبل أن تتعرض الشركة لعملية نصب بواسطة شيكات مسروقة استنزفت وقتها السيولة المالية للشركة وأصابتها في مقتل.. حيث أخبرنا المدير وفي اجتماع حزين أن الشهر الحالي هو الشهر الأخير الذي سيكون قادرا فيه على دفع رواتبنا.. وأننا يجب أن نبدأ رحلة البحث عن عمل جديد ..

شاء الله حينها وحتى قبل أن أبدأ بالتفكير في خطة لوأد شبح البطالة في مهده أن يأتيني اتصال من أستاذ فاضل وهو كاتب صحفي ومحلل سياسي معروف.. كنت قد تعرفت عليه قبل فترة من الزمن.. ومن خلال حوارات قصيرة معه بدا واضحا أنني تركت انطباعا إيجابيا لديه.. اتصل بي.. وبادرني حينها بذلك السؤال التاريخي.. هل لديك رغبة بدخول عالم الإعلام؟

لم أفكر كثيرا.. فليس لدي ما أخسره.. فمهما تكن ضريبة هذه التجربة فإنها حتما لن تقارن بمرارة الجلوس بالمنزل بلا عمل.. وهو شعور سبق أن تذوقت قساوته من قبل.. قلت له بأني جاهز.. لكن ما هي الوظيفية بالضبط .. فقال لي "بروديوسر" أخبار قلت له وماذا تعني بالضبط "بروديوسر" أخبار.. فأنا لم يسبق لي أن عملت يوما بالإعلام..

قال لي هي أشبه بمساعد للمراسل التلفزيوني.. وأنت مثقف وتقرأ كثيرا.. لذلك لن تجد صعوبة في أداء هذا العمل.. ثم سألني هل يمكنك القدوم الآن ومقابلة المراسل الذي ستعمل معه.. قلت له طبعا.. غادرت شركتي ولم أتوقع حينها أنني أغادر عالم الحاسوب.. إلى غير رجعة..

وهكذا ومن دون مقدمات أصبحت منتج أخبار في شركة تقدم خدمات للقنوات الفضائية.. وهي باختصار شركة توفر لمراسلي القنوات الفضائية كل الخدمات الفنية واللوجستية التي يحتاجونها في أعمالهم.. دون أن تضطر قنواتهم إلى فتح مكاتب متكاملة؛ حيث يتم تأمين مصورين وفنيي مونتاج ومهندسي بث إضافة إلى تأمين مواصلاتهم …

وفي هذه الشركة تحديدا كانت أولى خطواتي الحقيقية في عالم الإعلام المرئي.. وفيها تحولت من مبرمج للكمبيوتر إلى منتج أخبار..

رغم أن القدر شاء حينها أن تكون العلاقة بين المراسل الذي بدأت العمل معه وشركة الخدمات متوترة نوعا ما.. لذلك كانت الأيام الأولى متعبة وتخللها العديد من المواقف التي أجبرتني على التفكير جديا بالرحيل؛ ومن بينها ما جرى معي عقب إنهائي للشهر الأول من العمل حيث ذهبت لمحاسب الشركة.. حتى أسأله عن راتبي.. فبدا وكأنه يعرف بوجودي للمرة الأولى.. ثم أخبرني أن آخذه من المراسل.. ذهبت للمراسل.. فأخبرني أن العقد مع الشركة يتضمن أن يتكفلوا هم براتب البرديوسر..

تحاملت على نفسي وعدت للمحاسب الذي استقبلني بفتور.. وقال لي راتبك 150 دينار (حوالي 210$) صعقت وقتها.. فقد كنت أتوقع أن الرواتب في عالم الإعلام مرتفعة.. ثم تابع قائلا.. وبما أنك بدأت معنا متأخرا ستة أيام عن بداية الشهر فراتبك لهذا الشهر 130 دينار (180$).. !

لكني كنت قررت أن أكمل هذه التجربة إلى نهايتها ووطّنت نفسي أن لا أحبط وهكذا بدأت رويدا رويدا أتعرف على عالم الإعلام.. وماذا يعني "كليب وتقرير ورشز".. ولعل ما ساعدني حينها على حرق المراحل أنني دخلت إلى الميدان مباشرة وبدون مقدمات نظرية..

وأذكر أنني وبعد يومين فقط من عملي بالشركة أرسلني المراسل لعمل مقابلات لوحدي بمرافقة المصور لالتقاط صور من شوارع عمان.. ومن ثم الاعتماد عليّ في عمل المونتاج للتقارير.. كانت أياما ثرية جدا..

بدأت أحضر المؤتمرات الصحفية والفعاليات المختلفة وأتعرف على الصحفيين والمحللين والكتاب.. وأيضا الوزراء والمسؤولين.. وأذكر أن طبيعة أسئلتي كانت أحيانا تثير استغراب بعضهم.. فكان وبدلا أن يجيب على السؤال يبادرني القول.. ومين حضرتك ومع مين بتشتغل؟

هل نمت تلك الليلة.. لا أعتقد.. فلأول مرة في حياتي العملية.. أجد نفسي أسير على أرض صلبة فأنا أصبحت منذ اليوم.. صحفيا في قناة الجزيرة..

وأعترف أنني احتجت وقتها لعدة أسابيع وربما أشهر حتى أتخلص من شعور أنني مجرد عابر في هذا العالم؛ لا سيما أن كل ما لدي وقتها من سلاح.. قلم جيد ورصيد معقول من الثقافة والوعي السياسي، لكني لم أكن أملك ربما آنذاك شخصية الصحفي فأنا ورغم تجربتي بالعمل الطلابي أيام الجامعة إلا أنني دمثا -أكثر من اللازم- على رأي بعض الزملاء.. مثلا في حال رفض مسؤول التصريح فأنا لم أكن ألح عليه أو أضع الكاميرا بوجهه لكي أجبره على التحدث.. كما أنني كنت أتردد في أن أقطع بعض المقابلات خصوصا مع الناس البسطاء الذين ربما أكون أول إنسان أستمع لصوتهم.. وهذا ما اعتبره بعض الزملاء عيبا في شخصيتي..

المهم أنني اكتشفت وبعد عملي لفترة مع هذه الشركة أن قناة الجزيرة هي أهم زبون لديهم لاسيما بعد عودتها للعمل في عمان بعد إغلاق مؤقت. وكم كنت سعيدا عندما تجرأت ذات يوم على دخول مكتب الجزيرة والتعرف على مديره الأستاذ ياسر أبو هلالة وعلى الزميل حسن الشوبكي.. وقد كنت أيامها أغبط الزملاء الذين يتاح لهم العمل مع مراسلي القناة عن قرب، حيث كنت أحرص على مراقبة عملهم في حال التقينا بأي تغطية ميدانية لأنني بدأت أدرك حينها.. بتميز تغطية القناة دونا عن الفضائيات الأخرى، وأن الخبر على الجزيرة يكون له طعم آخر.

حتى خلال المؤتمرات الصحفية كنت أنتظر سؤال الجزيرة ومنه أعرف كيف سيكون مسار تغطية ذلك الخبر على شاشتها.. وأعترف اليوم وعبر هذه المدونة أن ما أبقاني في عالم الإعلام في تلك الأيام هو الحلم بأن أنضم للجزيرة.. وإلا فإن العمل ضمن شركة الخدمات -على اعترافي بفضلهم علي- كان متعبا وكان الراتب لا يكفي حتى للمواصلات.. وشاء الله بعد ذلك بعدة أشهر أن تقرر قناة الجزيرة التوسع في عمل مكتبها في عمان عبر توظيف منتج أخبار ومدير تصوير.. تقدمت للوظيفة.. وخضت المقابلة.. ووفقت بحمد الله وفضله بأن أكون من وقع الاختيار عليه لتلك الوظيفة..

هل نمت تلك الليلة.. لا أعتقد.. فلأول مرة في حياتي العملية.. أجد نفسي أسير على أرض صلبة فأنا أصبحت منذ اليوم.. صحفيا في قناة الجزيرة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.