شعار قسم مدونات

فلسفة التاريخ.. سؤال المستقبل

blogs - mosque
تحوي النصوص الدينية في معظم الأديان ما يصفه فراس السواح بالسردية الكونية، حيث تعبر عن رؤية دين ما بمسيرة المخاطبين التاريخية، وقد تشتمل على قصص السابقين واللاحقين لتضمن ثبات المنتمين للدين على معتقداتهم، ولم يكن الإسلام استثناءً عن هذه القاعدة ولا مخالفا لها.

وقد تضمن القرآن قصص السابقين، وأهمية الاعتبار بمصيرهم، وأهمية السير في الأرض للتعرف على ما جرى لتلك الأمم فيما سبق، واتخاذ ذلك عظة وعبرة، وعدم تكرار تلك الخطايا التي أوبقت تلك الأمم، لكن القرآن الكريم بقدر ما قدم الاستدلال بالتاريخ، بقدر ما أشار لانتزاع قوانينه من آثاره ورواياته، لتجنب مصائر الأمم السابقة. أما على صعيد الحديث النبوي، ققد تنوعت الأحاديث الشريفة بين الأحاديث التي تضمنت تنبؤات بالمستقبل، والأحاديث التي تضمنت إشارات لقوانين تحكم تطور الأمم ومضيها قدما، أو تحذر من الخطايا التي تقود الأمم للهلاك، وأحاديث النوع الأول تندرج تحت عنوان: علامات الساعة أو الفتن والملاحم، وهو تراث عريض، تضمن العث والسمين.

تنوعت الكتابات التاريخية المسلمة، لكنها اقتصرت على سرد الوقائع، وجرى ذلك دون التركيز على القوانين الناظمة لحركة التاريخ، بهذا بقي أمر قوانين التاريخ جامدا عند السياق العقائدي.

أما أحاديث القسم الثاني، فقد حذرت من أحوال إن وقعت أدرك الأمة عقوبات دنيوية محددة، كما أشارت أحاديث أخرى إلى أن الأمة الإسلامية ستحذو حذو الأمم الأخرى، وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الاقتداء بالأمم الأخرى في أخطائها، وتبعا لذلك تكاثرت أقوال الصحابة في المعنى نفسه، فأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-، أكدوا في خطب ورسائل منسوبة إليهم فكرة أن التاريخ محايد في قوانينه، لا يتغير، ولا يتبدل، ولا يحابي، بل تجري عقوبات الله تعالى وفقا لقواعد مشاهدة في التاريخ، تترك آثارها على الأمم.

وبهذا يبدو جليا مركزية الأمة في الفعل والاختيار للمسار التاريخي الذي تخطه في حاضرها ومستقبلها، وبدون تحديد مسار تاريخي أو مستقبلي منمط، أو حتى وصول لحالة مثالية أو فردوس على الأرض، هذا على الرغم من كثرة النبؤات الواردة في الأحاديث النبوية، وهو ما يسمح للأمة بمساحة كبيرة من الفاعلية، وإلا فما معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدون سقف زماني يلغى فيه لصالح سيادة الخير مطلقا.

لكن وقائع الفتنة الكبرى، والوقائع السياسية المتلاحقة، شلت فاعلية الأمة، فصارت تركز على الوقائع دون القوانين، وشغلتها بأخبار الفتن والملاحم، ودخل الدس في هذا المجال، لتعبر الفرق السياسية المختلفة عن طموحاتها، وتعلقت الأمة بطوائفها كافة بالنبؤات وتمني الواقع الفردوسي، وقرأت الأمة أحاديث المهدي المنتظر –وكثير منها ضعيف- قراءة انتظارية سلبية، وخالفت منطوق ومفهوم تلك الأحاديث، فركنت الأمة في قراءتها لمدعي المهدوية ووعودهم الفردوسية، متغافلة عن أن هذه الأحاديث أشارت لظهور المهدي وأنه سيبايع من قبل الأمة، وأن عهده سيكون عهد سلام واستقرار غير أبدي، وأن هذا المهدي نفسه لن يدعي المهدوية لنفسه، ولن يجبر أحدا على قبول بيعته، كما أن الأحاديث الصحيحة فعليا لم تشر لوقت ظهوره أو علامات سابقة عليه، كما لم تطلب تمهيد الأرض لقدومه، فوجوده معلق بظروف تاريخية مستقبلية، وليس بنبؤات سماوية.

ومع ظهور الصراع حول القضاء والقدر بين أهل السنة والمعتزلة والجبرية، ساد الحوار حول مساحة الإرادة الإلهية والإنسانية، وكجزء من ذلك الجدال بدأ أهل السنة التركيز على التمييز بين إرادة الله تعالى الكونية والأخرى الشرعية، مميزين ببين الأولى الحيادية التي تنطبق على المؤمنين والكافرين، والثانية المرتبطة بإثابة الله تعالى لمطيعيه ومعاقبته للعصاة، وظهر الأشاعرة في مواجهة الفكرة الاعتزالية القائلة بإلزام الله تعالى بأحكام وأفعال ما دام قد وعد بها، واستخدام المعتزلة لفظ الإيجاب والواجب على الله تعالى والأصلح في حقه تعالى، وهو ما بدا لأهل السنة حينذاك إساءة بالغة لمقام الألوهية، فقدم الأشاعرة فكرة أخرى، مفادها أن أفعال الله تعالى غير معللة، لأنها لو كانت كذلك، لكان ثمة من يتحكم في فعل الله تعالى، لكنهم في المقابل جردوا الفعل الإلهي من الغاية والقصد سواء في الغايات الكبرى، أو في التفاصيل المتصلة بالأسباب والمسببات، وتسيد الأشاعرة الفكر السني، لتؤثر تلك المقولة التي تتصل بنفي تعليل أفعال الله على النظرة للأسباب والمسببات.

بإزاء الجدال الديني المشار إليه، تنوعت الكتابات التاريخية المسلمة، لكنها اقتصرت على سرد الوقائع، وفيما تنوعت أساليب الكتابة ومناهج الجمع للأخبار، ولكن ذلك جرى دون التركيز على القوانين الناظمة لحركة التاريخ، بهذا بقي أمر قوانين التاريخ جامدا عند السياق العقائدي، حتى كتب ابن تيمية رحمه الله تعالى رسالته في لفظ السنة في القرآن، مميزا بين لفظ السنة في القرآن عندما يكون شرعيا، وبين السنة عندما تكون كونية، متناولا موضوع السنن المتصلة بالكون والعادات الدارجة فيه، مشددا على حتميتها حال وقوع أسبابها، وأنه يندر انخراقها بالمعجزات.

وفصل ابن تيمية في الرسالة التدمرية، مشددا على أهمية اعتماد القوانين العلمية كأساس في التفكير والعمل، وتوسط في التأكيد على الأسباب والمسببات، ونبه لخطورة الخلط بين الأقدار الكونية والشرعية لأنه يتضمن تسوية بين الطاعات والمعاصي، وذلك في معرض رده على المتصوفة خاصة ممن تحدث عن الاستسلام الكامل للأقدار، وأنه حتى ولو فعل المعاصي فإنها فعل الله تعالى فيه، وأنه مثاب على هذا الاستسلام.

 وظهر تأثير ابن تيمية وفكرته هذه على ابن القيم حيث أشار لاضطراد السنن الكونية في بعض مؤلفاته، لكن الاتجاه الأكبر كان ما فعله ابن خلدون بتنظيمه القوانين الناظمة للاجتماع أو العمران وفقا لاصطلاحه في مقدمته الشهيرة، حيث تحدث عن القواعد الناظمة مجردا إياها عن السياق العقائدي القرآني، فاتحا المجال لضبط فهم القوانين التاريخية بصورة دقيقة.

إن الحاجة تبرز اليوم لفهم متكامل لفلسفة التاريخ، يتعامل بفعالية مع فكرة إرادة الإنسان ومركزيته في هذا الكون.

قيمة ما فعله ابن خلدون في سياق فلسفة التاريخ، أنه توافق مع الطرح الاعتقادي المتصل بالقضاء والقدر وعلاقتهما بالسنن الكونية، وإن لم يستخدمه بصورة مباشرة، كما أنه اتجه للتأمل في الكون والتاريخ بحرية كاملة، وبصورة محايدة، فاستطاع الوصول لتلك المجموعات من القوانين.

 ولكن الطفرة التي أنجزها ابن خلدون، لم تجد من يكملها، فقد تواصل الركود الحضاري، حتى أطل علينا مجددا دعاة النهضة ومحيو جذوتها، أمثال مالك بن نبي الذين ربطوا بين التاريخ والحضارة ومعطياتهما، وحاولوا التفاعل مع الفكرة السننية بغية النفاذ عبر الواقع لفهم السنن الكونية المتصلة بالتاريخ الإنساني، وتوصل لنظريته المتصلة بشروط النهضة، فيما اجتهد د. عماد الدين خليل عقبه للوصول لفلسفة للتاريخ ذات جذور إسلامية، وهي محاولات يؤمل أن تجد من يكملها لعل طريق المستقبل تتضح معالمه أكثر فأكثر.

إن الحاجة تبرز اليوم لفهم متكامل لفلسفة التاريخ، يتعامل بفعالية مع فكرة إرادة الإنسان ومركزيته في هذا الكون، ويضمن التناسق بين السياقين القيمي المعطى عبر النص الديني، والقيمي المعطى عبر التجربة الإنسانية، وبين السياق الحضاري المراد لنهضة الأمة المسلمة بفئاتها وكياناتها كافة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.