شعار قسم مدونات

العنف الديني

A picture made available on 20 January 2016 shows Filipino members of the armed Christian group calling themselves 'Red Gods Defenders' burning a replica of the so-called Islamic State (ISIS or IS) flag in the mountains of Central Mindanao, Philippines, 19 January 2016, to show their opposition over a plan of the jihadist militant group of putting up their own territory in the restive area of the country. According to news reports, ISIS sees the Philippines as a poten

لقد أصبح "العنف الديني" شاغل الناس وديدن الخطابات الرسميّة؛ وملهاة الإذاعات ومأساة الشعوب، وذريعة السلاطين والمستبدين لترسيخ سلطانهم. وتحوّل إلى كليشيه لا يملّ من تكرار نفسه في كلّ حين. تقول الدعوى إنّ البشر يمارسون العنف لأسباب متعددة؛ سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، ولكنّ عنفاً من هذا النوع يبقى عنفاً عقلانيّاً مضبوطاً ومحسوباً ودنيويّ الدوافع. أما حين ينبع العنف من دافع دينيّ، فإنّه يتحوّل إلى عنف أعمى، كيف لا وصاحبه يرى أنّه يحوز الحقيقة والصواب المطلق وأنّ الآخرين هم كفرة يستحقّون الموت والعقاب!؟

 

إذا كان الدين هو ما يقبل البشر أن يموتوا لأجله وأن يكون لموتهم في سبيله معنى، فإنّ الدولة القوميّة قد احتكرت حقّ مواطنيها في الموت في سبيل فكرة أو مبدأ أعلى

لقد وُلدت هذه الدعوى، والتي يسمّيها وليام كافنو "أسطورة العنف الديني" في الفضاء الأوروبي في أعقاب "الحروب الدينية" في القرنين السادس والسابع عشر. تمثّل هذه الأسطورة الأرضية التي تقوم عليها العلمانيّة السياسيّة، والتي قدّمت نفسها إبان ذلك باعتبارها دعوة لتجاوز الخلافات المذهبيّة والدينيّة والتسامح والسلام وتنظيم الولاء السياسي تحت سقف الدولة القوميّة، وهو ما بدا، كما تُصوّر السرديّة العلمانية، المخرج الوحيد من جحيم "الحروب الدينية". ورغم كثرة النقود الموجّهة إلى هذه "الأسطورة" فإنّ قوتها كامنة في رواج روايتها التاريخيّة وفرضها لروايتها عما يجري في الحاضر.

 

أدّت الأسطورة التاريخية، بالعموم، دوراً وظيفيّاً مهمّاً في تفسير العالم، فالأسطورة قصّة تفسيريّة للكون أو لأحد تمظهرات الوجود البشريّ، وهي بطبيعة الحال تمتلك سلطتها من طابعها القصصي ومن قدراتها التفسيريّة التي لا تنضب، فالأسطورة قادرة دوماً تفسير الوقائع بالعودة إلى عناصر الأسطورة، التي تتسم بقدر ما من المرونة وتتيح هوامش معقولة لتسمح لنفسها بالانثناء أمام مستجدات الواقع دون أن تنكسر. إلا أنّ "أسطورة العنف الديني" أقرب ما تكون إلى الأيدولوجيا بتعريفها الكلاسيكيّ؛ أي إنّها نوع من تزييف الواقع، والعمى عن حقائقه لحساب القصّة السهلة والرابحة.

 

على أنّ أسطورة العنف الديني آخذة في الرواج في العالم العربي بصورة أكثر اختزالاً وتشوّهاً وتسييساً، فحتى العنف الديني (إن صحّ استعمال هذا التعبير)، أصبح محصوراً في توصيف الجهاديّة السنّية بأطيافها، بل وفي وسم ما كان يُنظر إليه سابقاً باعتباره إسلاماً معتدلاً (أُشير إلى وضع الإخوان المسلمين في قوائم الإرهاب السعوديّة في مارس 2014). في حين استثنت التصريحات القلقة للأمم المتحدة ولدعاة حقوق الإنسان فصائل الحشد الشعبي ومليشيات حزب الله ومرتزقة إيران من فظاعات العنف الديني. والأنكى أن قطيعاً من المثقّفين قد انساق وراء ترديد هذه الدعاية وإقامة المؤتمرات للكشف عن فظاعة العنف الديني وتسويق إسلام أكثر اعتدالاً وطاعة، دون أن يكلّفوا أنفسهم مؤونة الفحص النقدي لمقولة "العنف الديني"، ودون أن يكترثوا للسياق السياسي الذي تدور في فلكه هذه المقولة اليوم.

 

وإذ تتوخّى هذه التدوينة/المقالة الكشف عن هشاشة هذه الأسطورة، وضرورة تجاوزها إذا ما أردنا فهم اللحظة التاريخيّة فهماً حقيقيّاً، فإنها تعترف بأنّ هذه الأسطورة/الأيدولوجية لا تستمدّ قوتها من البراهين النظريّة بقدر ما تستمدّها من وظيفتها السياسيّة المدعومة بأجهزة إعلاميّة ضخمة وصور نمطيّة لا تفتأ عن التوالد والتكرار.

 

ما هو الدين؟

أوّل النقودات المتعلّقة بأسطورة العنف الديني، هو تعريف الدين نفسه، فأسطورة العنف الديني تقوم على إمكانيّة التمييز والفصل النظري، قبل العملي، بين الدين وسائر أنشطة الحياة الإنسانيّة (الدنيوية أو العلمانية) الآن ودوماً. ومن ثمّ تقول الأسطورة بأنّ الدين كان مسؤولاً عن الحروب الكبرى في التاريخ البشري: الحروب الدينية الأوروبيّة، محاكم التفتيش، الحروب الصليبيّة، الفتوحات الإسلاميّة وغيرها من مظاهر "العنف الديني".

 

إلا أنّ "الدين" في حقيقة الأمر اختراع حديثٌ؛ أعني بذلك أنّ تحديد ما هو "الدين" بالاستقلال عن سائر أنشطة الوجود الأخرى هو اختراع حديث لم يوجد قبل القرن السابع عشر، هذا ما يُشير إلى جورج بالانديه في "الأنثروبولوجيا السياسيّة" وغيره. فلم يكن الدافع الديني، فيما سبق، مستقلّاً عن بقيّة الدوافع الإنسانيّة، ولم يكن بالإمكان التمييز الحاسم بين ما هو ديني وما هو دنيويّ، فالدين، ما قبل الحداثة، أقرب إلى أن يكون نمطاً من العيش وطريقة في الوجود، ومن ثمّ فإنّه متغلغل في لحم سائر الأنشطة الإنسانيّة، ولا يمكن فصله عنها.

 

ولذا، فإننا لا يمكن أن نفرّق في الشواهد التاريخيّة بين عنف دينيّ وآخر دنيويّ، أو حتى أن نقول بأنّ السلطة قد وظفت الدين لخدمة مصالحها، فهذه عبارات لا معنى لها في تلك الحقبة، وتكرارها ليس إلا وقوعاً في المفارقة التاريخية (أي قياس الماضي على حكم الحاضر). إلا أنّ تفحّص حالات "العنف الديني" الكبرى في التاريخ تكشف عن وجود عشرات العوامل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة المتداخلة والمتشابكة مع العامل الديني، والتي تناقضه أحياناً. فالنصف الثاني من الحروب الدينية الأوروبيّة كانت صراعاً بين الهابسبورغ الكاثوليك والبوربون الكاثوليك أيضاً، وقد تحالف الفرنسيون الكاثوليك في بدايات تلك الحروب مع السويد اللوثريّة. وأظنّ أن كارين آرمسترونغ في كتابها "حقول الدم: الدين وتاريخ العنف" كانت أفضل من تتبّع حالات العنف الديني عبر التاريخ وفككتها كاشفة عن هشاشة السرديّة التاريخية لأسطورة العنف الديني.

 

عزل الدافع الدين وشيطنته

تتجاهل أسطورة العنف الديني وجود دوافع سياسية واقتصاديّة وهويّاتيّة وراء حوادث العنف الديني الحديث، ولعلّ حالة داعش هي النموذج الأبرز لهذا التجاهل المستمرّ والمريب. لقد خسرت القاعدة رصيدها وجاذبيتها الأيدولوجية في بدايات الربيع العربي، حين شعرت شعوب المنطقة بإمكانيّة بناء مستقبل حرّ وكريم لها، إلا أنّ موجات الثورة المضادة أجهضت أحلامنا جميعاً وأعادت فرض الاستبداد والسلطويّة تحت مرأى العالم، بحجّة الخوف من صعود الإسلاميين.

 

يترافق هذا مع بؤس مشاريع الدول العربيّة التنمويّة والتحديثيّة وشؤمها الاقتصادي وفسادها المؤسساتي وتبعيّتها الاقتصادية والسياسيّة المخزية. وفوق ذلك حرمان المسلم البسيط من حقّه الطبيعي في أن يشعر بأنّ الدولة ليست عدوّة لتاريخه وثقافته وقيمة. مع ذلك، وفوقه، يضحك بعض المثقّفون عند الحديث عن "مظلوميّة سنّية" في العراق وسوريا، ويصبح الحديث عن الطائفيّة السياسيّة التي يمارسها النظام السوري والعراقي (الإيرانيان) حديثاً طائفيّاً.

 

لم يحتج نمور التاميل (الحركة الانفصالية السيرلانكية) إلى فتاوى ابن تيميّة لتنفيذ 260 عمليّة انتحاريّة، مبتكرين بذلك هذا التكتيك من العنف الحديث. فالسياق السياسي والسيسيولوجي أكثر أهمّية في فهم هذه الظواهر من السياق اللاهوتيّ. وربما لو لم يكن ابن تيميّة قد ولد في القرن في القرن السابع الهجري، لولد الآن! هنا تكمن إحدى أبرز مثالب هذه الأسطورة/الأيدولوجية، إذ ينبني على العمى عن رؤية البواعث الحقيقيّة لتفجّر العنف الديني في المنطقة، سجالات رديئة عن ضرورة نقد التراث وإصلاح الخطاب الديني، وتطهير النشء من مخلّفات التطرّف الفكري.

 

لست أتحدّث هنا عن صوابيّة هذه الاستراتيجيات بحدّ ذاتها أو خطلها، ولكنني أتحدّث عن سذاجة تصوير العنف الديني باعتباره ابناً للخطاب الديني والتراثي الكلاسيكي، أو تصوير سيكولوجيا العنف الديني باعتبارها شبقاً ساعياً إلى الظفر بالحور العين، فهذا إغفال خطر للطبيعة السيسيولوجية والسياق السياسي للظاهرة.

 

لقد مشهدت داعش العنف، صوّرته فظيعاً وفجّاً ودموياً، هذا مرعب لي شخصياً. ولكن، هل علينا أن ننسى ما يحدث داخل أقبية النظام السوري دون تصوير؟ هل براميل المتفجّرات أكثر رحمة من حدّ السكين؟ بل هل طائرات الدرونز أرحم؟ (هذا ما تعنيه مقولة الفيلسوف الفرنسي بودريارد بأنّ القاعدة لم تفعل سوى أنها أعلنت عن عنف العالم).

 

لقد بلغ عدد ضحايا داعش من المدنيين السوريين نحو 2450 منهم87 طفلاً في حين بلغ ضحايا القصف الروسي من المدنيين نحو 3800 بينهم 906 طفل، كما أزهقت طائرات التحالف حياة أكثر من 640 مدني بحسب إحصاءات المرصد السوري لحقوق الإنسان. هذا بالطبع دون الحديث عن ضحايا النظام السوري الذين يزيدون، بحكم المفقودين والمجهولين، عن أعلى الأرقام المسجّلة.

 

أليست هذه الازدواجيّة في إدانة العنف مدعاةً وحدها لخلق مائة وحش جديد مثل داعش بل وأكثر شراسة؟ ماذا تبقّى لهذه الأمم المغلوبة حتّى تخسره، ماذا تبقّى لها لتأمله؟

 

لقد أدركت الأنظمة هشاشة شرعيّتها السياسيّة في بدايات الربيع العربي، واستعاضت عن فقدان شرعيّتها بتضخيم العدوّ (الإرهابيّ، والوحشي والعنيف). على الناس إذاً أن تختار الوقوف إما مع الفوضى وجنون العنف الداعشي أو مع الاستبداد والسلطويّة. وقد قلت سابقاً أنّ الخيار الأوّل ينطوي على أمل أكبر بالخلاص من الثاني!

 

"الدين" الحديث، أم الأديان؟

لقد تراجع الدين بصورته الكلاسيكية في بواكير الحداثة، مع الحديث عن انهيار الميتافيزيقا وظهور العلم الحديث وغير ذلك، إلا أنّ الهالة الدينية قد انتقلت في الحقيقة من ميدان إلى آخر. على سبيل المثال، يُشير دوركهايم إلى أنّ الحقيقة العلميّة قد اتسمت مع مطالع الثورة العلميّة إلى الاتجاهات الوضعيّة بالموضوعيّة المطلقة والإلزاميّة المفروضة على الذات، ويُشير من ثمّ إلى أنّ هذه السمات هي ذاتها سمات الحقيقة الدينية. لقد ظهرت حالة فجّة مشابهة في أعقاب الثورة الفرنسيّة، عندما تمّ تتويج آلهة العقل على مذبح كاتدرائيّة نوتردام التي تحوّلت إلى معبد للفلسفة! إلا أنّ الوريث الأبرز للهالة الدينية، كانت الدولة القوميّة الحديثة، فإذا كان الدين هو ما يقبل البشر أن يموتوا لأجله وأن يكون لموتهم في سبيله معنى، فإنّ الدولة القوميّة قد احتكرت حقّ مواطنيها في الموت في سبيل فكرة أو مبدأ أعلى.

 

لقد وضع جورج كيمبال خمسة معايير أسماها بـ "العلامات التحذيريّة" إجابة على سؤال لماذا يتحوّل الدين إلى شرّ؟ وهي علامات تميّز الدين عن غيره من الظواهر البشريّة والعلامات الخمسة هي (ادّعاء الدين حيازة الحقيقة المطلقة، الطاعة العمياء، وتأسيس زمن مثالي، والاعتقاد بأنّ الغاية تبرر الوسيلة، والحرب المقدّسة). يرى وليام كافنو أنّ الدولة القوميّة تتسم بهذه العلامات الخمسة، فحين أعلن جورج بوش الحرب على الإرهاب، كان واضحاً في قوله بأنّ المعركة معركة بين الخير والشرّ، أليس هذا حيازة للحقيقة المطلقة؟ وأليست الجيوش الحديثة هي أعنف آلة قتل تقوم على الطاعة العمياء؟ وألا تصوّر الديمقراطيّة الليبرالية نفسها باعتبارها نهاية التاريخ وحلم الأحلام؟ ماذا عن قتل المدنيين في سبيل السلام أو حوادث التعذيب الممنهج في السجون الأمريكية وسجون حلفائها العرب؟

 

هل بعد هذا يبقى الفصل مقنعاً بين العنف الديني والعنف العلماني؟

المتديّنون بأطيافهم هم جزء من حركة التاريخ وسيرورة التغيّرات، وقد يميلون إلى العنف أو إلى الطاعة؛ وتاريخ الأديان حافل بنماذج مختلفة أشدّ الاختلاف في تفاعلها مع ذات الأحداث

الحقيقة أنّ هذا التمييز هو أحد مظاهر أيدولوجيا الدولة القوميّة، فالعنف الذي تقوم به الأنظمة السياسيّة، يبقى عنفاً مشروعاً ومقبولاً، وكلّ عنف تتمّ ممارسته خارج حدود اللعبة الدوليّة عنفٌ مُدان وإرهابيّ. ومن ثمّ لا تجد مفردة "العدالة"، كقيمة كونيّة، موقعها من الإعراب داخل عجمة السياسة.

 

لقد قيل الكثير عن عنف الدولة القوميّة، سواء ما جنته في الحربين العالميّتين، أو ما سبق ذلك، مقترناً بمشروعها الرأسمالي العملاق، من استعمار العالم الجديد والعالم الثالث. وهو عنف لم تشهد تاريخ الأديان مثله على الإطلاق.

وهذا الكلام كثيراً ما يُقال لردّ التهم عن الأديان، وليس هذا هدفي هنا، فالمتديّنون بأطيافهم هم جزء من حركة التاريخ وسيرورة التغيّرات، وقد يميلون إلى العنف أو إلى الطاعة؛ وتاريخ الأديان حافل بنماذج مختلفة أشدّ الاختلاف في تفاعلها مع ذات الأحداث؛ فالدين ليس جوهراً ثابتاً مفارقاً للتاريخ والثقافة، بل هو حركة داخلهما. ولكنّ المهم في هذه المرحلة، هو تجاوز ثنائيّة الفوضى أو الاستبداد. وشقّ طريق ثالث بينهما لا بدّ أن ينطلق من الوعي بزيف هذه الأسطورة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.