شعار قسم مدونات

القهوة بتاعتي لو سمحت!

blogs - teac

لا أعرف في الحقيقة كيف ينشأ الدافع إلى الكتابة، هو يأتي من العدم، شعورٌ مُلحّ مثل الرغبة، إما أن تتجاهله فيبقى قلبك مضطرباً، أوتكتب لتهدأ. عن ماذا سأكتب؟ لا أدري! ما يهمني أني أمام صفحة الـword أعبث بأزرار "الكيبورد"، بحثاً عن شيء أكتبه.

يجب أن أقول أني في حالة مُزرية، في حالة من اللاجدوى، أتوق إلى الترتيب والهدوء، ومبلغ من المال يأتيني من السماء كل شهر، أستعين به على شراء الشاي والخبز والكتب. قبل فترة كلّمتني وزارة التعليم، حتى أشغل حيّزاً لمدة شهر عِوض مُعلّم قد كُسرت رجله فدخل في إجازة طويلة. قلت لهم "إن شاء الله"، لم أعطهم جواباً حاسماً، لقد أصابتني رجفة خفيّة.. نعم رجفة، أحدثها الخوف، لفقداني إلى الجاهزية النفسية أوالاستعداد النفسي، خصوصاً أن الفئة التي سأعلّمها هي من فئة الشباب المراهقين، والذين أثق كل الثقة بأنهم مشوّهون نفسياً وداخلياً، فإن التعامل معهم يحتاج إلى خبرة كبيرة وباعٍ طويل في ميدان التربية، وأنا لا زلت طريّاً رغم اقترابي من الثلاثين، باختصار لأني والآلاف غيري، لم يقتحموا حلبة العمل بسبب الوضع المتدني والرديء في هذا البلد.

التعليم متهاوٍ، سلبي، غير مجدٍ، وأخلاق الجيل في أعلى مستويات الانحطاط.

فكرت في الاعتذار والبقاء في عُزلتي مع أشيائي الأثيرة، لكني تساءلت في نفسي: كيف ستواتيني الخبرة دون الممارسة، وأنا جالسٌ هكذا، لابد أن أقبل مهما كانت المتاعب والصعوبات. قررت الذهاب إلى الوزارة لتوقيع العقد المطلوب، ثم مارست أول يومٍ لي، تحقق كل ما ظننته، كل ما تخيلته قد كان وصار، هناك وجوه في الفصل يشعر الناظر إليها بأن أصحابها محكومٌ عليهم بالمؤبد، آخرون يبدو عليهم الاحتيال، وآخرون سفّاحون تقدح عيونهم الشر والشرر، وأشكال أخرى كثيرة مريبة، وتصرفات وحركات ليس لها علاقة بالتربية. هل أنا حقاً داخل فصل مدرسي، أم أني في زنزانة أتقمص شخصية الواعظ الذي سيرشدهم إلى سبيل الخير!

مضى الشهر بالتي هي أسوأ، وشعرت بسعادة غامرة حينما انتهى عقدي، طير حبيس مضطهد فتحوا له باب القفص. التعليم متهاوٍ، سلبي، غير مجدٍ، وأخلاق الجيل في أعلى مستويات الانحطاط، في اعتقادي أن أفضل مرحلة يمكن لي تدريسها، هم الأطفال الذين في سن التاسعة والعاشرة.

عدتُّ من جديد إلى عزلتي، عدت إلى إبراهيم نصرالله وملهاته، عدت إلى الشحات أنور والسيد متولي، ونصير شمة وشربل روحانا، عدت إلى الآثار الكاملة لكافكا، والتي سوف أعكف عليها طيلة الفترة القادمة، بعد انتهائي من قصص نصرالله.

سأرقب شجرة السرو من جديد، وأقيس المسافات بالأغاني كما كنت سابقاً، أتفرّع مثل الدالية على حبال الأفكار التي لا تنضب. قبل يومين أصابتني حالة من الاكتئاب؛ لأن اللوحة التي رسمها لي صديقي الفنان "أيمن الأسطل"، عندما تم تثبيتها على حائط صالون البيت، كانت مائلة بمقدار سنتيمتر واحد، ذلك التشوه الممعن في البساطة والعاديّة، تضخّم في رأسي مثل أخطبوط كبير، صار يعضّني ويضربني بأطرافه الطويلة، ويقلق طمأنينتي دوماً. إنني مُصاب منذ طفولتي بالوسواس القهري، الأمر الذي أدى إلى تدمير حياتي بشكل ملحوظ، بسببه خرّبت أحلامي وطموحاتي، وبقيت عارياً أمام نفسي والزمن..

ذلك المرض شائك، مريع، فظيع، قاتل، اللعنة.. إني أفقد وعيي تدريجياً، وتركيزي والانتباه، أتلاشى مثل الزبد، أنا الزبد! لا أملك غير الهواء حولي، دائماً أرنو إلى رؤية النوارس تعبر زرقة البحر جيئةً وذهابا، أرنو إلى الفضيلة. والآن أريد بصورة ملحة أن أذهب إلى كافتيريا واسعة جميلة، أجلس في ركنها البعيد، أصفق للجرسون وأقول له: "القهوة بتاعتي لوسمحت" ثم أفتح الجريدة المطوية التي معي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.