شعار قسم مدونات

في مديح الفوضى

blogs - revolution

الفوضى يمكنها أن تكون إيجابية، تعمر الأرض، وتحمي الإنسان، وتصون الكرامة، ويمكنها أن تتجسد بصورة بالغة القسوة لتغدو تدميراً لكل شيء وقتلاً لكل حي، يمكن للفوضى في صورتها السلبية أن تأخذ بدايةً شكل الاستقرار الزائف، ويمكن لفوضى منظمة، إيجابية، أن تجسد استقراراً حقيقياً ومستداماً.
 

كان العرب فيما قبل 2011 يعيشون حالة من الفوضى الكامنة داخل صورة زائفة من الاستقرار الواهن، استقرار الحكام الفاسدون في السلطة، ذلك الاستقرار الذين يمنحك هدوء المقابر ويلغي أي حركة باتجاه الإصلاح خوفاً على الشعب المسكين، من الفوضى.
 

الفوضى المنظمة تقود إلى استقرار دائم، والاستقرار الزائف لا يؤدي إلا إلى فوضى سلبية تطيح بكل أمل في استقرار دائم.

على أن الخطورة الكبرى التي مثلها هذا الوضع، وضع الاستقرار الزائف، أنه مثّل بؤرة تشكلت فيها كل موجبات الفوضى بوجهها السلبي، تلك الفوضى التي انفجرت بعد أن ثار الناس في وجه الواقع الراهن بالغ السوء.
 

الاستقرار الزائف، في أنظمة ما قبل ٢٠١١، هو الجاني، وهو المسبب الحقيقي لكل هذه الفوضى المنفلتة في مرحلة ما بعد ثورة الربيع ٢٠١١، فلم يكن يحمل في طياته إلا بذور الخراب ومشاريع الدمار والدم.
 

الفوضى المنظمة تقود إلى استقرار دائم، والاستقرار الزائف لا يؤدي إلا إلى فوضى سلبية تطيح بكل أمل في استقرار دائم.
 

تشتمل دولة كالصين على مظاهر التقدم الاقتصادي والنمو، غير أن الوضع السياسي الهش لهذه الدولة الكبيرة لا يبشر باستدامة الإنجاز، فقد ينفجر الاستقرار الزائف يوماً في وجه الحزب الحاكم مخلفاً فوضى عارمة، إذ على ما يبدو، ونظراً لغياب الآليات الواضحة المنظمة لمسألة الحريات السياسية والتداول السلمي للسلطة، فإن الرفاهية التي حققتها الصين في جانبها الاقتصادي قابلة للانهيار بفعل ضغط سياسي ما أو ثورة شعبية من أقلية هنا أو أكثرية هناك.

الجزائر نموذج لتلك الدولة التي تتدثر بوهم موجبات الاستقرار لتبرير استمرار الضمور في الحالة السياسية للبلد، وهو على كلٍ ضمور تُغرس فيه كل يوم بذور فوضى ستنفجر إن لم تنزع مسبباتها مبكرا.

مصر، تلك الدولة التي روجت نخبها للاستقرار بوصفه البديل الوردي لخيار الثورة التي ستقود للفوضى، ما لبثت أن انتظمت فيما بعد الربيع العربي وصعود الإخوان للسلطة، فرغم كل الفوضى في تلك الفترة -ما بعد الربيع- كانت ثمة طرائق واضحة يمكن من خلالها حسم التنازعات والتجاذبات السياسية بأدوات واضحة لا تقود للفوضى السلبية، بل تعزز النظام السياسي والاستقرار الاجتماعي في البلد، لكن ما لبثت جمهورية العسكر أن ألغت هذه الحالة في محاولة لإعادة خلق نموذج الاستقرار الزائف، وهو نموذج يستدعي قلقاً كبيراً، إذ يمكن، في حال استمراريته، أن يقود إلى فوضى سلبية لا تمتلك تلك الأدوات التي يمكن من خلالها تجنب الخيارات الكارثية الناتجة عنها.
 

وعلى النقيض، إذا ما تأملنا لواقع الديمقراطية الليبرالية، تلك التي تجسد الولايات المتحدة، حالتها الراهنة، فإننا نجد فوضى منظمة، تقود إلى استقرار دائم، وتعمل بشكل مدهش على امتصاص كل صدمات الفوضى السلبية.

يمكن للتيارات المتعددة، التي تتخلق في الولايات المتحدة بين الفينة والأخرى، أن تُعبر عن نفسها من خلال أدوات واضحة، وأعراف سياسية محددة، فيما تنعدم هذه الآليات في الدولة الشمولية، وإذ يذهب الأمريكيون في تطرفهم لإنتاج شخصية كترامب، بكل مساوئها، تندفع الحالة العربية في دول الربيع نحو مزالق الاحتراب والدم.
 

على أن الربيع العربي، الذي جاء هادماً لزيف الاستقرار، ما لبث أن دخل في صراع حتمي مع الفوضى الناتجة عن ذلك الاستقرار في محاولة لخلق حالة من الاستقرار الدائم بالاعتماد على منظومة فوضوية في شكلها الخارجي منتظمة في كينونتها الداخلية.
 

فيما يتعلق بالجمهوريات العربية، لا خيار آخر غير الديمقراطية الحقيقية وامتثال مبادئ الحقوق والحريات طريقاً لبناء الدول وخلق حالة دائمة من الاستقرار.

الليبرالية الديمقراطية، هي فوضى، تتراءى كذلك للناظر إليها من الوهلة الأولى بخصائصها الضامنة، بشكل واسع، للحقوق والحريات الفردية، وحق الناس في اختيار من يحكمهم، تلك المنظومة التي ما ألفها العربي، فيندفع في نقدها لأنها أنتجت فرداً يخالف قيمها، وهو نقد يرتكز على نقد الخيارات، النتائج، دون الالتفات لتلك الطرائق والمنظومات الرائعة التي قادت إلى ذلك الخيار.
 

بعد أن فاز ترامب، انطلقت مظاهرات متعددة، في الداخل الأمريكي، من أولئك الرافضين، الوجلين من شخص كترامب، غير أن هذه الاحتجاجات لن تقود أبداً إلى قلق عميق بشأن إمكانيتها في زعزعة استقرار النظام السياسي، أو بكونها قادرة على الوقوف ضداً أمام طريق ترامب للبيت الأبيض، فما تفعله هذه الاحتجاجات لا تعدو كونها "جماعات ضغط " لإيصال فكرة للرئيس الجديدة مفادها: انظر إلينا، فلنا صوت مرتفع وعليك أن تستمع إليه، وهذا على النقيض من الوضع العربي، فأي حركة احتجاج في مصر مثلاً، تثير الكثير من الخوف في أوساط النخبة الحاكمة من أعلاها إلى أدناها، وتبعث الكثير من القلق الناتج عن معرفة ما يمكن أن يأتي بعد هذا "النظام" الذي اجتهد في تخليق حالة زائفة من الاستقرار.
 

الخلاصة:
– فيما يتعلق بالجمهوريات العربية، لا خيار آخر غير الديمقراطية الحقيقية وامتثال مبادئ الحقوق والحريات طريقاً لبناء الدول وخلق حالة دائمة من الاستقرار، وبالتالي تحقيق رفاهية على المستوى الاقتصادي .
– لا يمكن لدولة عسكرية أو ثيوقراطية أو نصف ديمقراطية أن تخلق استقراراً حقيقياً دائماً.
– فوضى ما بعد الربيع العربي، هي امتداد للاستقرار الزائف الذي أسهمت أنظمة ما قبل الربيع في صناعته، على أن هذه الفوضى هي فعل أولي للربيع العربي يستهدف إعادة تشكيل الواقع السياسي لخلق حالة دائمة من الاستقرار المبني على نظريات تمجد الحقوق والحريات وتضمنها وتنظمها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.