شعار قسم مدونات

تفاهة اليمين الجديد

U.S. President-elect Donald Trump and Chairman of the Republican National Committee Reince Priebus (R) address supporters during his election night rally in Manhattan, New York, U.S. on November 9, 2016. REUTERS/Mike Segar/File Photo
يكثر الحديث اليوم عن صعود اليمين المتطرف على خلفية الاعتداءات التي يتعرض لها اللاجئون السوريون، وغيرهم من الأجانب، من قبل متطرفين يمينيين في أوروبا، وكذلك تقدم أحزاب اليمين في المجر والنمسا وألمانيا والسويد وفرنسا في استحقاقات انتخابية متتالية، وثالثة الأثافي، انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.

علينا أن ننتبه مع ذلك إلى أن هذا اليمين الجديد، وعلى الرغم من أوجه الشبه العديدة التي تجمعه بالحركات اليمينية التي عرفتها أوروبا في حقبة ما بين الحربين (1918-1939)، وعلى رأسها الحزبان الفاشي والنازي اللذان حكما إيطاليا وألمانيا، وخاضا سويا الحرب العالمية الثانية ضد الديمقراطيات الغربية، هو يمين يفتقر إلى رؤية جادة وبرنامج إصلاحات يمكن التوقف عنده بالقبول أو الرفض.

ظهر أن الديمقراطية الليبرالية عاجزة من جهة عن مواجهة قوة رأسالمال، وهي أيضا ديمقراطية وهمية من جهة أخرى، لا تعبأ بأصوات الناخبين.

ارتبطت الموجتان، الأولى والثانية، لصعود اليمين في أوروبا، بأزمة اقتصادية كبيرة، كانت في حالة النازية الألمانية هي أزمة أزمة الكساد العظيم (1929-1933)، وهي اليوم الأزمة المالية العالمية (2008-2009)، وكلاهما عبارة عن أزمة اقتصادية ضربت الولايات المتحدة، وتصدعت على إثرها الاقتصادات الأوروبية، وفشلت الديمقراطيات الليبرالية في مواجهتها نتيجة تحالفها العميق مع الرأسمالية، مما أدى إلى دفع قطاعات واسعة من الشعوب، هي القطاعات الأكثر فقرا، فاتورة أزمات لم يكونوا هم المسؤولين عنها.

في المرتين، ظهر أن الديمقراطية الليبرالية عاجزة من جهة عن مواجهة قوة رأسالمال، وهي أيضا ديمقراطية وهمية من جهة أخرى، لا تعبأ بأصوات الناخبين وخيارات الشعب المحكوم، بقدر ما تلتزم بخيارات المؤسسة، أي برؤية النواة الصلبة لجهاز الدولة ورؤية المؤسسات الدولية الاقتصادية والسياسية التي تشاركه إدارة الأزمة بحجة أو بأخرى، وهي مؤسسات ظهر جليا أنها لا تعبأ بمصالح الجماهير وبتحقيق العدالة وبالنظام الديمقراطي، بقدر ما يعنيها الرشاد الاقتصادي الذي يخدم الأثرياء بالضرورة.

هذا ما برز في الأزمة اليونانية حين فرضت أوروبا على الحكومات اليونانية المتعاقبة بشكل متسارع برنامج تقشف صعب لسداد ديون مستحقة لدول أوروبية، هي ديون كان معروفا أن الحكومات اليونانية السابقة تهدرها في الإنفاق العسكري أو في تنظيم حدث رياضي ضخم كأولمبياد 2004، وكانت الدول الأوروبية تقدمها بدافع انتهازي. ولم تعبأ تلك الدول (الديمقراطية كما هو مفترض) بالرفض الشعبي اليوناني الذي تجلى ديمقراطيا في استحقاقات متتالية لبرنامجها التقشفي.

 
واجهت ألمانيا أزمة شبيهة، عندما فرضت إنجلترا وفرنسا عشية الحرب العالمية الأولى تعويضات ضخمة على ألمانيا في "معاهدة فرساي" التي أنهت الحرب العالمية الأولى، وقد توقع جون ماينارد كينز، الاقتصادي الكبير الذي سيضع لاحقا نظريته الجديدة في إدارة الدولة للشأن الاقتصادي تفاديا للأزمات التي تتسبب فيها الرأسمالية الحرة، أن تؤدي تلك التعويضات إلى انهيار الاقتصاد الألماني، بما لذلك من تبعات اقتصادية وسياسية على أوروبا، وانسحب من مفاوضات فرساي، التي كان يحضرها كموظف في وزارة الخزانة البريطانية، معترضا على ذلك القرار من قبل الحلفاء.

تعرضت ألمانيا على إثر ذلك بالفعل إلى واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث، وعلى الرغم من أنها قد نجحت في تجاوزها عام 1924، ثم نجحت في التملص من كثير من تحكمات الحلفاء في فرساي، إلا أن ضعف النظام الديمقراطي الليبرالي لجمهورية فايمار (الجمهورية الألمانية 1919-1933، نسبة إلى مدينة فايمار التي عقدت فيها مشاورات تأسيس الجمهورية بعد انهيار الإمبراطورية الألمانية).

ومع الأزمة الثانية عام 1929، طرح الحزب النازي، والنازي هي اختصار لعبارة: حزب العمال القومي الاشتراكي، النازية كبديل للديمقراطية الليبرالية في إطار ثلاث خصائص:

الأولى هي أنها نظام قومي، أي أنه حزب حريص على استعادة وحماية المصالح الألمانية من منافسي ألمانيا وخصومها الذين جردوها من حقوقها واستغلوا أزماتها، بخلاف النظام الليبرالي الذي يفتقد إلى تلك النزعة القومية تجاه الخارج.

والثانية أنها نظام ديمقراطي شعبي، يتأسس على الحكم المباشر للشعب عبر السلطة المعبرة عنه التي يمثلها الحزب الواحد وزعيمه، ويتخلص بذلك من الاغتراب الذي يعانيه المواطن في الديمقراطية الليبرالية عن المؤسسات السياسية، فهو وإن كان يختار أعضاءها، إلا أنها تتحول بمجرد تكونها إلى مؤسسات منفصلة عنه لها رؤيتها وقرارها الخاص.

والثالثة أنه نظام عمالي اشتراكي، تتسع فيه سلطة الدولة، أو السياسة والديمقراطية الحقيقية كما يرى كارل شميت، أهم ناقد يميني للديمقراطية الليبرالية، للسيطرة على الاقتصاد، وحماية مصالح العمال.

في مقابل ذلك البرنامج المتكامل لليمين الكلاسيكي ممثلا في ذروته، النازية الألمانية، نلاحظ أن بعض ممثلي اليمين اليوم والأحزاب اليمينية، كالجبهة الوطنية في فرنسا وحزب الحرية الهولندي، تفتقد إلى مثل ذلك البرنامج الجدي، ولا تتبنى بالفعل أكثر من العداء للأجانب والانغلاق تجاه الخارج؛ وهي في جوهرها نزعات سلطوية من جهة، أي ترغب فحسب في حكم ديكتاتوري، وشوفينية من جهة، أي أنها تردد الفخريات الوطنية أو القومية، دون موقف قومي حقيقي في الخارج.

في الأزمة القديمة نجحت أحزاب الوسط، في خلق نموذج حقيقي كبديل، وهو دولة الرفاه، بنماذجها المختلفة.

فهذه الأحزاب الأوروبية ترفض اتخاذ موقف مناوئ تجاه الولايات المتحدة المسؤولة بالفعل عن الكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية لأوروبا، بل هي معارضة جذريا لفكرة للاتحاد الأوروبي، وهي أيضا أحزاب نيوليبرالية في الميل الاقتصادي، وإن كانت فحسب معادية للتجارة الخارجية التي تؤثر سلبا على شريحة واسعة من العمال. لا يمكن لذلك أن تكون تلك الأحزاب بديلا حقيقيا للديمقراطية الليبرالية، فهي أقرب إلى صيحات ارتدادية نابعة من الأزمة وتستلهم النموذجين الصيني والروسي: نظام سياسي مغلق واقتصاد نيوليبرالي. بل وتضيف إلى ذلك موقف أكثر انحطاطا، وهو انعزالية في الشأن الخارجي مع اللعب على محاور القوى الكبرى لضمان استقرار سلطتها الداخلية.

ستثير تلك الأحزاب بالضرورة كثيرا من الغبار في وجه الديمقراطية، لكنها سرعان ما ستغادر الساحة، وهكذا نتمنى، لكن المهم هو فيمن سيخلفها. ففي الأزمة القديمة نجحت أحزاب الوسط، في خلق نموذج حقيقي كبديل، وهو دولة الرفاه، بنماذجها المختلفة، سواء الديمقراطية الاجتماعية أو المسيحية، أو النيوديل في أمريكا. وقد استمر ذلك النموذج عدة عقود حتى نفدت قدرته على إقناع أجيال الشباب من جهة، وإقناع النخب المهيمنة من جهة أخرى.

أما في الأزمة الحديثة، فقد فشلت محاولة أوباما في أن تكون جذرية بما يكفي لإصلاح الخلل في الديمقراطية الليبرالية، أو بطريقة أخرى: فشل أوباما في أن يكون فرنكلين روزفلت، أي أن يجبر الرأسالمال على قبول اتفاق جديد على غرار النيوديل، وصار المشهد فسيحا لحلول جذرية على غرار اليمين الجديد، لكن أكثر جدية منه، سواء من اليسار أو اليمين. هذا ما ينتظره جيل "احتلوا وول ستريت"، الذي خيب أوباما رجاءه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.