شعار قسم مدونات

التدين المبتور

blogs-مسجد

ثمّة ظاهرة برزت في مجتمعاتنا الإسلامية في العقود الأخيرة تؤرقني كثيراً أحب أن أسميها "التدين المبتور"، إنه ذلك النوع من التديّن الذي يحصر تطبيق الإسلام في المساجد فقط، وتنتهي علاقة صاحبه مع الإسلام بمجرد انتهائه من الصلاة، وهو بذلك يعطّل الجزء العملي الحياتي من الإسلام ويفصله عنه.

ومع أن العبادات الشخصية تشكّل جزءاً لا يقوم الإسلام بدونه، ولكنها في الحقيقة تحتاج إلى ما يكملّها كي لا تبقى جسداً بلا روح ونظريةً بلا تطبيق، وما يكملّها هنا هو الأخلاق والمعاملات وفي الأثر"إنما الدين المعاملة".

ولا شك بأن الإسلام لم يأتِ ليأمرنا بالعبادات الروحية فقط، فالإسلام دينٌ ودنيا وعملٌ وعبادة. والنصوص الدينية التي أتت في هذا السياق كثيرةٌ جداً، بل إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يربط بين الروحي والمادي، ويجعل لكل قضيةٍ منهما مجالها الخاص بها، فلا الالتزام بالتوجيهات الروحية في الإسلام كاف فقط ولا الالتزام بالتوجيهات المادية الدنيوية يكفي كذلك.

وحده الجمع بينهما هو ما يجعل الإنسان يحقق غاية الإسلام ومراده على أتباعه، وهو ما يجعله مسلماً صالحاً يحقق الهدف الأسمى من خلقه وهو: عمارة الأرض.

ومن الظواهر الخطيرة المترتبة على "التدين المبتور" جعل الإسلام مجرد علاقة شخصية بين الإنسان وربه وإضعاف العلاقة التكافلية والرابطة الأخلاقية التي من المفترض أن يتصف بها أي مجتمع مسلم، وهذا هو أساس نظرة المجتمعات العلمانية المادية للدين عموماً، فالدين عندهم أمر شخصي بحت، ولكن الإسلام ليس كذل، فهو يمزج الدين مع الحياة العملية ليجعل من السلوك الحسن عبادة ومن الأخلاق عبادة بل حتى إن التبسم عبادة!

هناك فئة ما زالت تسعى لإصلاح عبادات الناس "ويخيّل لها" بأن ذلك سيتكفل بإصلاح أخلاقهم وأحوالهم الدنيوية

ومما ترتب على "التدين المبتور" أن الأخلاق أصبحت في مجتمعاتنا فضيلة وليست ديناً، فمن الطبيعي مثلاً أن نقرأ لكتّاب مشاهير في بيئتنا ما يدعم فكرة فصل الأخلاق عن الدين، وهو ما يجعل الأخلاق في هذه الحالة نسبية وعرضة للتغير بناءً على المزاج العام للمجتمع، وهذه هي حقيقة نظرة العقل العلماني للأخلاق المتعارضة تماماً مع نظرة الإسلام الذي يُثيب على الخُلق الحسن ويجعله غاية بحد ذاته، فكل ما هو خُلقي جزءٌ من الإسلام بالضرورة وكل ما هو غير خلقي فلا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد.

ومما يشجع على انتشار هذا التفكير المغلوط عن الإسلام التيارات الدعوية الحديثة، فنجد منها مثلاً تركيزاً كبيراً على حث الناس على الصلاة والنساء على ارتداء الحجاب مقابل ضعف "بل شبه عدمية" التذكير بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنها ببساطة تتعارض مع فكرة "التدين المبتور" التي تشرّبتها المجتمعات وأصبحت بذلك تحارب كل ما يخيّل لها أنه "سلطة دينية" على المجتمع! ولكنه في الحقيقة علاقة اجتماعية تكافلية تضمن أن تسود الأخلاق وتعمّ على المجتمع بأكمله.

التيارات الفكرية الإسلامية على تنوعها ليست أحسن حالاً في نظرتها لهذه القضية كذلك، فمنها ما لزم أصحابها أبراجهم العاجيّة بدون أن يكون لهم أي أثر إيجابي على مجتمعاتهم، ومنها ما أخرج أصحابها المجتمعات كلها من دائرة الإسلام كي يريح ضميره المتعب، الذي ينظر للدنيا بمنظار مثالي لا وجود له سوى في الجنة!

وهناك فئة ما زالت تسعى لإصلاح عبادات الناس "ويخيّل لها" بأن ذلك سيتكفل بإصلاح أخلاقهم وأحوالهم الدنيوية، وهذا مما يجعل إسهامات جميع هذه الجماعات في هذا المجال ضعيف للغاية، مع التذكير بأن هناك بعض الإسهامات من قبل بعض التيارات الحركية الإسلامية وإن كانت تحتاج إلى تجديد وإعادة بناء بشكل فوري.

إن فصل الديني عن الدنيوي في الإسلام خطير للغاية، فهو يجعل من الإسلام دين جامد كأي دين آخر، وهو ما يزيد من علمنة المجتمعات الإسلامية والذي يعني مزيداً من ضياع الهوية الذي تعاني منه هذه المجتمعات في القرون الأخيرة، وهذه قضية تحتاج إلى تركيز مباشر من مؤسساتنا الدينية وتياراتنا الفكرية وجماعاتنا الدعوية وإلا فالنتيجة وخيمة والشواهد كثيرة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.