شعار قسم مدونات

ما بين السجون وملاعب الكرة في مصر

Football Soccer - Egypt v Ghana - 2018 World Cup Qualifying - Africa Zone - "Army Stadium" Borg El Arab, Alexandria, Egypt - 13/11/2016 - Egypt's fans celebrate after the goal. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh
"والله وعملوها الرجالة ورفعوا رأس مصر بلدنا" هكذا علت أصوات الأغنية الشهيرة عقب فوز مصر على غانا باستاد برج العرب غرب الإسكندرية، فوز جعل مصر تقترب بشدة من التأهل للمونديال بعد 28 عاما من الغياب، عمت الفرحة أرجاء الملعب، وهرعت القنوات والفضائيات لتنقل لنا البشرى؛ مذيعة عدد أكبر من الأغاني الوطنية التي باتت حاضرة في مناسبات الكرة وحضور الرؤساء والزعماء في هذا البلد بأكثر من أي مناسبة أخرى.

ربما يكون المونديال حلم للاعبي كرة القدم الذين سينالون مزيدا من الشهرة والمال، ومبرراتهم في ذلك أنهم تجار البهجة لهذا الشعب البائس الغارق في الفساد والغلاء، وأنهم يرفعون علم وطنهم عاليا.

تجيد الأنظمة الديكتاتورية توظيف ما يجري في عالم الرياضة لصالحها وتتمنى صعود منتخباتها للمونديال لتكون الكرة أداة إلهاء وتغييب للوعي.

حسنا هذا ربما يكون كلاما صحيحا في عمومه، باعتبار أن كرة القدم اللعبة الشعبية الأكبر في العالم، وأنها كقوى ناعمة ربما تساهم في جلب مزيد من السياحة بالتعريف بالبلد، أو يمكن توصيف اللاعبين كسفراء أو قدوة لبلادهم ومحفزا على كل ما هو إيجابي إذا كان اللاعب يتحلى بالأخلاق الرياضية السامية وله رسالة تتجاوز حدود الملعب كما كان محمد أبو تريكة.

لكن واقع الحال هذه الأيام في مصر، تجعل حلم المونديال على رأس أولوليات النظام الحالي وسدنته من ضباط الشرطة وقواته الأمنية، ليس حبا في الوطن، ورفع "رأس مصر بلدنا"، لكنه حلم سيجعلهم يرفعون رأسهم عاليا باعتبارهم هم الوطن، بينما ستجبر المواطن أن يخفض رأسه لأسفل أو تتسمر عينه على "مخدر" المباريات ولن يشغله أكثر من متابعة ما صور له بأنه "حلم مصر ودليل رفعتها".

تقتات الأنظمة الديكتاتورية على هذه المعاني الزائفة لمفهوم الوطنية، وينسبون لأنفسهم المجد فيها بوصفهم رعاة الرياضة والرياضيين، وهو محض كذب، فشعوب أوروبا وآسيا التي تسهر حتى الصباح فرحا بالفوز، لا يهان مواطنها في شوارعها ولا يقف بالطوابير ليجد قوت يومه الأساسي، ولا يستجدي أحد للحصول على دواء غير موجود، هذا فضلا عن وجود رعاية حقيقية للرياضة في المناهج التعليمية وتتيح الدولة أراضيها بمساحات واسعة للملاعب العامة والمكتبات العامة والمتنزهات العامة، ومن ثم فالرياضة حقا من صلب اهتمامتهم وكرة القدم تستخدم كأداة للترفيه والمتعة وبناء الصحة بشكل حقيقي، وليس شيء موسمي للتغطية على نكبات داخلية وتمرير سياسات إفقار وتجهيل وتعذيب.

آية ذلك هو ما جرى قبل يوم المبارة وأثناءها ولم يجد أي ردة فعل تليق بحجمه، فضلا عن التواطؤ الذي جرى، فقبل نحو يومين من المباراة قتل بائع سمك في مصر يدعى مجدي مكين في قسم الأميرية، بعد اقتياده للقسم من قبل أحد ضباطه وهو عائد بعربته "الكارو" ليكون صبيحة اليوم التالي جثة هامدة عليها آثار تعذيب بشع دفعت ذويه لرفض استلام جثته، في اليوم التالي كان سجن برج العرب في الإسكندرية القريب من الأستاد على موعد مع وفاة سجين جنائي يدعى عباس طه، وتتجه أصابع الاتهام لضباط يدعى عمر عمرو، اتهمه أيضا أهالي السجناء السياسيين بالتنكيل بذويهم يوم الأحد وقت المباراة.

فالأنباء والشهادات الواردة من هناك على لسان أهالي المعتقلين منذ السبت الماضي تكشف عن نوع من الانتقام والتنكيل من قبل إدارة السجن بالمعتقلين وذويهم، بداية من سوء معاملة المعتقلين بحق المحتجزين في عنبر الإعدام وتهديدهم بالقتل، مرورا بالتعدي عليهم بالضرب وإصابتهم بإصابات بالغة مما أدى إلى احتجاج المعتقلين في باقي العنابر بعد وصول الخبر إليهم وإطلاقهم الهتافات المنددة بذلك، الأمر الذي على إثره قام الضباط باقتحام العنابر وإلقاء قنابل الغاز فيها، وإحضار قوات خاصة من الشرطة لاقتحام الزنازين، وزادوا في التنكيل حدا بلغ كسر ومصادرة الأدوية الخاصة بالمعتقلين حتى الأنسولين وغيره من الأدوية التي قد تزهق روح الإنسان بغيابها، هذا فضلا عن ترحيلها لما يزيد عن 200 معتقل إلى سجون بعيدة كجمصة والمنيا في محاولة واضحة لإذلال الأهالي الذين لم يقبلوا ما جرى، وقرروا الهتاف ضد إدارة السجن والضباط المعتدين من أجل التنديد بما يجري لذويهم.

جرى كل هذا ومر؛ بينما إعلام النظام يذيع تلك الأغاني التي تطالب المواطن برفع رأسه عاليا، رغما عن كل ما يثقلها، لم يفرق مع الشرطة وإعلامها إذا كان من مات أو نكل به، سواء كان مسجونا جنائيا أو سياسيا أو حتى مواطنا مسيحيا بسيطا يناله من الأذى العام ما ينال غيره ممن دفعتهم ظروفهم أو انتمائتهم الأخرى إلى السجن.

القضايا لا يقتلها شيء بقدر الاعتياد، وأن الإلحاح على قضيتك والتعريف بأبعاد مآسيها يقع في صلب التخفيف عن آلام الآلاف الذين يتمنون أن تذكرهم وأن تساندهم.

كما تجيد الأنظمة الديكتاتورية بناء السجون العامة والتوسع في ميزانيات أدوات التعذيب والبطش بأكثر من بناء الملاعب والمكتبات والمنتزهات العامة، فإنها تجيد توظيف ما يجري في عالم الرياضة لصالحها وتتمنى صعود منتخباتها للمونديال لتكون الكرة أداة إلهاء وتغييب وعي؛ تمرر خلال الاحتفال بها ما تريد من سياسات وتغطي على ما تفعله من كوارث.

بقدر ما أتمنى أن يفرح الناس وتدخل قلبوهم البهجة، بقدر ما أتمنى أن تكون هذه الفرحة ناتجة عن إيجاد توفير الدواء للمرضى والغذاء للجائعين والحرية للمعتقلين، والاكتفاء لأهل العلم والباحثين، أتمنى أن يكون حلم المونديال في توقيت لا يوظف فيه من أجل الإلهاء كما جرى في مونديال 2006 حينما كان يصفق الرئيس في الملعب بينما ألف مواطن يقبعون في قاع البحر.

كلمة أخيرة
ربما يلاحظ القارئ المتابع لما أكتب في هذه الزاوية أسبوعيا أنني أعيد وأكرر الحديث عن قضية المعتقلين وأزمتهم من حين لآخر، واعتباري أنها القضية المركزية في مصر، والتي لن يكون هناك أي حلحلة للأوضاع دون إنهائها، وأنا إذ أفعل ذلك في كل مناسبة تلوح لي، فإنما هو انطلاقا من قناعتي أن أي قضية لا يقتلها شيء بقدر الاعتياد، وأن الإلحاح على قضيتك والتعريف بأبعاد مآسيها يقع في صلب التخفيف عن آلام الآلاف الذين يتمنون أن تذكرهم وأن تساندهم، لذا فليعذرني صديقي القارئ على إلحاحي عليه في هذا فما نكتبه هو أقل ما يمكن أن نفعل لتخفيف الآلام عمن انقطع رجاؤهم إلا بالله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.