شعار قسم مدونات

كيف يدمّر النظام الأكاديميّ أدمغتنا؟

blogs - class

الطّعنة الأولى:

هناك خطأ غير مبرر في أذهان كثير من الناس، وهو أنهم يخلطون بين التعليم والمؤسسات التعليميّة، فالتعليم أمر مقدس وجوهري في حياة البشريّة، لكن النظام الأكاديمي والمؤسسات التعليميّة ما هي إلا منظومة ابتكرها بشر أمثالنا، قابلة للنقد والنقض والترميم والتحسين، وفي هذه السلسلة من المقالات أودّ أن أضّرب لكم طريقا في البحر يبسا لا نخاف دركا ولا نخشى..
 

في عام ١٩٧٢م سمحت المحكمة الأمريكيّة العليا للآباء الأرميشيين عدم إرسال أبنائهم إلى المدارس العامة، وكان ذلك لأسباب عقدية، بعد أن كان التعليم المنزليّ جريمة تستوجب العقاب، لم يطل الوقت حتى نشر الأكاديمي والمعلم الأمريكي جون هولت في عام ١٩٧٧م مقالا بعنوان "growing without school" بمعنى النمو بلا مدرسة، فتح جون هولت حينها أبوابا كانت مغلقة بإحكام، وطرح فلسفة سمّاها هو بنفسه "اللامدرسيّة unschooling" ومنذ ذلك الحين استمرت جهود جون هولت وأمثاله اللامدرسيين تتضافر من أجل مجتمع بلا مدارس كما سمّاها الفيلسوف الكرواتيّ الأصل "إيفان إليتش"، وأنا اليوم بصدد ترجمة هذه الفلسفة ترجمة معنويّة إلى الثقافة العربية، وأجد في الحقيقة خطرا كبيرا على المجتمعات من قبل النظام الأكاديمي، وإليكم مخاوفي..
 

المشكلة في المدرسة أنها تكبُت رغبة الإنسان في التعلّم، وتشكّله كما يحلو لها لا كما يحلو للإنسان المتعلّم.

إن الدماغ هو الأداة المستهدفة من قبل أيّ نظام تعليمي، لأن الدماغ هو الوعاء الذي تسعى المؤسسات التعليميّة إلى ملئه، والسؤال هو: هل النظام الأكاديميّ يقود أدمغتنا إلى حيث تستحق أن تقاد إليها؟!
 

الفضول:

كم هي مؤلمة تلك التجربة التي مرّ بها أبونا آدم عليه السّلام، فلا أحد يستطيع أن يتحمل ما قاساه بسبب الشجرة التي وقفت مختلفة تماما عن باقي أشجار الجنة، وعن كل ما فيها من النعيم، هل تتصور معي يا ابن عمي الإنسان كمّية الأسئلة التي جالت في خلد جدّنا قبل أن يلتهم الثمرة التي أورثتنا الأرض وما عليها؟!

إنه الفضول الذي حمله على ما فعل، وهذا إرثنا الإنساني منذ ذلك الحين، والمؤسسات التعليميّة تريد سلبنا هذا الإرث، ويعتقد علماء النّفس أن الفضول عاطفة جبلّيّة في الإنسان، ودافع أساسيّ للتعلّم، والفضول مؤشر ذكاء الانسان وبه يسمو، فالإنسان منذ ولادته أداة استكشاف بجميع حواسه الخمس، فالطفل يتعلم في كلّ لحظة وفي كلّ مكان مستخدما بصره وسمعه وأنفه وفمه وجلده، ولكنّ المدرسة هي التي تسجن الأطفال بين جدرانها، وتجعل من التعليم مهمة متعلقة بها وحدها، وهذه بحد ذاتها ليست مشكلة كبيرة، المشكلة هي أنها تكبُت رغبة الإنسان في التعلّم، وتشكّله كما يحلو لها لا كما يحلو للإنسان المتعلّم، فهي التي تطرح الأسئلة وهي التي تجيب، وبذلك ضيقت على المتعلّم المجال..
 

أتدرون ماذا يعني ذلك، يعني أن التفكير خارج الصندوق جريمة، ولم يكن ليضرّ ذلك إن كان ما في الصندوق كاف ومناسب للإنسان المتعلّم، فلكل طفل اهتماماته الخاصّة التي تختلف عن اهتمامات غيره، ولكل له فضول يوجّهه إلى حيث يرى نفسه مناسبا فيه، ولكل له أسئلة يبحث عن أجوبتها أكثر من غيرها، والمدرسة تقدّم توجّها واحدا وأجوبة محددة لأسئلة وُضعت مسبقا من قِبل أناس آخرين..
 

المنهج موحد، الطلّاب بالعشرات، والاهتمامات متباينة، ومع ذلك يقضي الطلّاب معظم النّهار في هذه الحال، ومعظم السّنة بهذه الحالة، فمتى سيجد وقتا للبحث عن أجوبته الخاصة؟!

فأنا مثلا لم أشعر يوما أني بحاجة إلى أن أنظر في الخصومة التي بين "السين-والصاد X-Y" ولم ولا أظن أنني سأحتاج إلى ذلك في حياتي وإن منحني الله عمر نوح عليه السّلام، ولكن كان يدور في خلدي أسئلة مثل: عندما يجتمع البحر والسماء، كيف تمر السفن من بينها، ولم أجد أحدا يجيب لي عن هذا السؤال، وكنت ملزما في أن أظل حكما بين السين والصاد، ولما رسبت في اختبار الرياضيات سخر مني زميلي علي، وكنت أحمل في نفسي ضغينة لعلي منذ ذلك اليوم حتى تواصل معي عبر الفيسبوك قبل أيام، وأخبرني بأنه انضم إلى الجيش ولم يستلم راتبه منذ ثلاثة أشهر.. عندها أحسست بالأسف تجاه علي، علي الذي كان يحفظ مؤامرات السيين تجاه الصاد لم يصبح مهندسا، لقد أصبح جندا من جنود الوطن الأوفياء..
 

نيوتن كان لديه تساؤلا خاصّا به، وبدأ يطارد اهتماماته التي ضاعت في تلك التّفاحة حتى انتهى إلى ما انتهى إليه، وتساؤلات ابن فرناس كانت تختلف عن تلك التي عند نيوتن، ولذلك سلك طريقه الخاصّة به وبدأ يطارد اهتماماته وفضوله حتى انتهى هو الآخر إلى ما انتهى إليه، وكذلك أصحاب الإسهامات العلميّة على مرِّ العصور، فلماذا في نظركم تقلّصت أعداد المخترعين والمكتشفين في زماننا، هل الإنسان يخطوا إلى الغباء مع تقدم الزمن؟! لا بل النظام الذي وُضع من أجل تعليمه يقوده إلى ذلك..
 

ليس هناك وقت للتعلم ووقت للتخرج، الوقت كله لمطاردة الفضول، وإياك أن تضيعه، أعني فضولك..

وينتج من عمليّة إجهاض الفضول، انقراض الابداع، وفي تصوري أن هؤلاء الذين ابتكروا الأفكار الجديدة في عالمنا اليوم هم الذين تخلّوا عن التعليم الأكاديمي، هل تريد أمثلة حيّة؟! لا تذهب بعيدا إلى "السلكون فالي" وتأمل كثيرا في شجرة العائلة وقائمة المعارف والأصدقاء وأخبرني عن النتائج..

يقول آينيشتان "إنها معجزة أن ينجو الفضول من التعليم الرسمي" فاللامدرسية يا أصدقائي تعني التعلّم مدى الحياة، -وهذا بالمناسبة عنوان كتاب لجون هولت- أو كما يحلو للمثقفين العرب أن يتغنوا به "العلم من المهد إلى اللحد" فليس هناك وقت للتعلم ووقت للتخرج، الوقت كله لمطاردة الفضول، وإياك أن تضيعه، أعني فضولك..

وقبل أن نلتقي في المقال القادم سأقترح عليكم هذه التجربة.. حاول أن تقضي ساعة واحدة فقط مع طفلك الصغير، أو مع طفل من أطفال الجيران، وادّعي أمامه أنك تعرف جواب كل سؤال، واطلب منه أن يأتمنك بأسئلته الخاصة، ثم حاول يا عزيزي الإنسان حاول فقط أن تبحث بنفسك عن الأجوبة واكتشف بعد ذلك كمّيّة المعلومات التي ستعثر عليها..

وإلى ذلك الحين أستودع الله فضولكم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.