شعار قسم مدونات

العودة من حلم منروفيا (3)

blogs - Monrovia 1

من الأعلى تبدو مونروفيا كأيّ مدينةٍ حديثة، لا تظهر عليها أي آثار للحرب أو المرض بعكس الواقع الذي يقول لك: مونروفيا مدينة بسيطة لا زالت تتعافى من الحرب التي انتهت قبل أقل من خمسة عشر عاما، فتمهل، للتو خرجنا من الجحيم.

عدا الأطفال، الجميع هنا عايشوا الحرب التي كانت حربا وحشيةً، لم يتلق أحد علاجًا نفسيًا منها للأسف؛ الحرب الأهلية انتهت في عام ٢٠٠٣، ومنذ ذلك الوقت اكتظت شوارع منروفيا بالمنظمات الدولية التي تعمل هناك من أجل "إعادة السلام وتطوير البلاد".

كنتُ حريصةً جدًا على عدمِ الحكم على أي تجربة أو جواب يخبرني به أحدهم؛ حتى تلك المرأة التي أبديتُ دهشتي من استنكارها لعدم دفع الأستاذ المغتصب رسوم الدراسة لابنتها أكثر من استنكارها للاغتصاب نفسه

أن تمشي في العاصمة يعني أن تجد على يسارك مبنى السفارة الأمريكية القديمة، بعد بضع دقائق ستجد مبنى السفارة الجديد. على الناحية الأبعد ستجد مبنى الأمم المتحدة، وبينهما مباني المنظمات الدولية. هكذا يبدو التواجد الأجنبي عادة في الدول المهمة جغرافيًا في أفريقيا أو هكذا تصورت.

لا يوجدُ حيٌ غني وآخر فقير، ففي ذاتِ الحي تجد بناية فاخرة وبجانبها بيتٌ متهالك. الخضرة والمياه تحوط منروفيا من كل مكان. الذهاب للشاطئ إحدى الممارسات الروتينية التي يقوم بها المحليون والأجانب. قد تتباين شواطئ المحيط بحسب تباين النوافذ التي تطل عليه فتظهر الطبقية وتتباين بتباين رمال الشاطئ،  لكن المحيط هو المحيط من نافذة الغني والفقير..

كل الخدمات العامة ليست في الحقيقة كذلك، لا أذكر عدد المرات التي تعطلت فيها عن إتمام عملي في المكتب بسبب انقطاع الكهرباء؛ حيث كنا نعتمد على الكهرباء العامة. في المقابل، لا تنقطع الكهرباء أو الماء في شقتي في الضفة الأغنى من المدينة حيث أني كغيري من الأجانب أو القادرين من المحليين، نسكن في مبانٍ لديها مولداتها ومضخاتها الخاصة، وهذا ما يجبرنا على أن ندفع مبالغًا تقارب مبلغ السكن في منهاتن.

في الحقيقة ، نحن لا نسكن في تلك المباني باختيارنا التام، في الغالب يكون ذلك بطلب إجباري من المنظمة التي تعمل بها، أو كحرص منك كي لا تتعرض لمتاعب لست أهلاً لها. مثلاً، إن كنت تسكن في أماكن معينة بلا كهرباء، فأنت معرض للإصابة بالملاريا أكثر من إن كنت تسكن في مكان يوفر التبريد طوال الوقت.. التحدي صار أكبر، سؤال المواصلات مركونٌ لم أجب عليه بعد.

وسائل المواصلات العامة في العاصمة تتعدد، يستخدم المحليون "التوك توك" -يسمونه كيه كيه-، وعربات التاكسي، والدراجات النارية في بعض الأحياء. كلّ هذه الوسائل يتشاركها العامة معًا، لكن يمكنك دائمًا أن تدفع أكثر كي لا يصاحبك أحد. نادرًا ما ترين شخصاً أبيضاً يركب إحدى وسائل المواصلات تلك، فالأغلب لديه سيارات خاصة أو يستخدم شركة نقل خاصة. إن سكنك ووسيلة تنقلك كافيان بالوشاية بك في منروفيا؛ من أنت وماذا تفعل وما هو دخلك؟!

 
undefined 

في الكيه كيه، يتكرر الحوار التالي بيني وبين السائقين:

لماذا تضع علمي السعودية وأمريكا؟

"أحب أمريكا جدًا"،

وماذا عن العلم السعودي؟

"هذا علم السعودية، هذا علم ديني"..

لم أكن أعلم أن السعودية دينٌ لأحد..

 

مباراة محلية
undefined

في نهاية الأسبوع الأول، أخبرني مديري عن مباراة محلية تقام بحضور نائب رئيسة الدولة. بدا متحمسًا للذهاب كونها ستقام في حيه الذي نشأ وتربى فيه. سألني بضحكةٍ ساخرة إن كنت أود مرافقته. لم يتوقع موافقتي. كرر علي قوله: "إنها ليست كالمباريات التي تقام في جدة أو نيويورك، إنها مختلفة. "ازددت حماسًا وأخبرته أني أرغب بمرافقته وأنه لم يسبق لي حضور مباراة في جدة -كوني امرأة- رغم محاولاتي الفاشلة في الذهاب والانضمام لأبي وإخوتي الذكور لمشاهدة الاتحاد عندما كنت في المدرسة.

 

ضحك ولم يصدقني. كنت قادرة على الضغط أكثر باتجاه ما أريد مع مديري، لكن صاحب الفندق اللبناني كرر علي بالعربية والانجليزية أني لستُ مجبرةً على مطاوعة جنوني أو مجاملة مديري بالذهاب للمباراة، ضحكت وشكرت حرصه الأبوي، لكني كنت قد عزمت على الذهاب.

في حي مديري القديم – حيٌ فقير جدًا-  كل شيء كان مدهشاً. عدد الجمهور الذي تجاوز الألف، تجمعهم حولنا، تهالك البيوت والدكاكين، كل شيء. الملعب كان عبارة عن أرضٍ رمليةٍ كبيرة خاليةٌ سوى من الحاضرينَ واللاعبين وكرة القدم.

ولأننا وصلنا بين الشوطين، تجمع حشدٌ من سكان الحي حولنا للحديث مع مديري عن معاناتهم في ذلك الحي. أستطيع أن أرى في أعينهم الدهشة من وجودي بينهم، ليس حضوري فقط بل وجلوسي مع نائب الرئيسة وعدد من سيدات ورجال الدولة.

بعد انتهاء المباراة، عمت الفوضى وبعض الشجار كتلك التي تحدث بعد المباريات. لم تكن غريبة، لكن لكثرة عدد الجمهور وحماسهم بدا المشهد فريدًا. حوطني ثلاثة شبان يعرفون مديري، يهمسون لبعضهم البعض "هي بحاجة لحماية" وأخبرني أحدهم ألا أقلق. أخبرتُه أني لستُ قلقةً على الإطلاق. ربتت على كتفي امرأةٌ أخرى ورددت نفس الكلام. أبديت انزعاجي من هذه "الحماية".

التفت إلى مديري الذي كان يضحك لردة فعلي طوال الوقت ويقول "أعرف أنك تكرهين ذلك لكنك تحت مسؤوليتي وفي حشد كهذا، لا بد أن أضمن حمايتك" كرر الشابُ جملته ومضينا للسيارة.

لم يكن ذلك الموقف الوحيد الذي يخبرني فيه أحدهم أني بحاجة لحماية، وبالتأكيد لست الأجنبية الوحيدة التي تواجه ذلك. سواء كان هذا الخطر حقيقيًا أم لا. لم يكن ذلك الشعور مريحاً. ماذا لو كنتُ من المحليين؟ أو كان لون بشرتي أغمق؟ ماذا لو كنت من طبقة اجتماعية مختلفة؟

المثير، أنني في البداية ظننت أن الأجانب هم وحدهم من يدعي أننا بحاجة لحماية، لكن حتى المحليون كانوا يرددون ذات النصيحة. كان يتكرر أن أمشي في الطرقات بحقيبتي الصغيرة التي لا تتجاوز حجم كف اليد، فيشير لي طفلٌ بأن أخبئ حقيبتي حتى لا يسرقها أحد. لم أكن أعرف كيف يشعر هذا الطفل وماذا يدور في ذهنه وهو يخبرني ذلك.

كلما سألني أحد عن الأمن هناك، أجيب كما يجيب أي قانوني يرغب أن يكون في الجانب الأكثر سلامةً وحياداً: "على حسب". فعندما ترتاد المجمعات السكنية للأجانب أو المطاعم والمنظمات الدولية، تتغير المعادلة وفي الغالب لا يكون سؤال الأمن مطروحا..
undefined 

 كامرأة عربية تعرف عواقب الاستشراق وتعيش جزءا منه في تجربتها اليومية في نيويورك، كنت أخشى من الوقوع في ذات الفخ وأنا في غرب أفريقيا. خصوصًا وأن عملي فيه من الجانب الاجتماعي والثقافي الكثير. لم يكن ذلك بالأمر السهل في المشروع المتعلق بالعنف الجنساني، فحتى تصنيفنا له كعنف جنساني لازال محلُ جدلٍ في عقول الكثيرين من الباحثين والمهتمين وحتى عند عامة الناس.

 

كنتُ حريصةً جدًا على عدمِ الحكم على أي تجربة أو جواب يخبرني به أحدهم؛ حتى تلك المرأة التي أبديتُ دهشتي من استنكارها لعدم دفع الأستاذ المغتصب رسوم الدراسة لابنتها أكثر من استنكارها للاغتصاب نفسه. كيف لي أن أحكم على أولوياتها؟ ولو كان لديها المال الكافي هل كانت ستتغير ردة فعلها؟ من يدري ؟!

المجتمع المدني في ليبيريا مبهر، فعلى الرغم من قلة المال أو عدمه في كثير من الأحيان، تجدهم يعملون  بشغفٍ كبير.. شعور الشغف ذلك أيقظ شيئا ما في ذاكرتي.. تذكرت المجتمع المدني الذي كنت أرى طيفه في جدة ذات حين.. تأسيس منظمة مجتمع مدني متخصصة في مجال اهتمامك، العمل دون مقابل لأجل العيش في المجتمع الذي نطمح، انعدام الدعم المادي، التحديات اللوجستية والقانونية، كلّ ذلك ذكرني بطموحِ وأملِ الشباب في بلادي الذي كنت وما زلتُ أراه رغم كلّ شيء.

ربما تكون هذه التدوينة الأخيرة لي عن تجربتي كشابة سعودية جداوية تسكن مانهاتن وضعتها أقدارها في غرب أفريقيا، في بلدٍ يتعافى من الحرب قبل عقدين. حاولت أن أكتب ملاحظاتي، ومحاولاتي الاحتفاظ بمسافة بيني وبين الأشياء كي لا أقع في فخ الحكم على الأشياء الجديدة. قد تكون هذه الحروف التي استمرت على مدى ثلاث تدوينات ملهمة لآخرين، أتمنى ذلك، لكن على الصعيد الشخصي ستبقى تلك التجربة حاضرة في ذهني على الدوام.

 

سأتذكر اللبنانيين الذين كغيري لم أتوقع أن أجدهم هناك، المطر الذي يأتي دائمًا بلا موعد، تلك الحوارات العابرة، أصابع الأطفال التي تنصحني بأن أخفي حقيبتي عن السارقين، صور المغتصبين في لوحات الشوارع، مديري وابتسامته في مباراة كرة القدم، فضيلة أن تحصل على شيء بسبب لون بشرتك.

 

وتحديدًا، ثمنُ الأشياءِ العادية في مدينةٍ كنيويورك أو جدة،  بينما تبدو الآن -وأنا في طريقي للسطر الأخير- حكايةً في ذاكرتك حين تلتفت لتراها كيفَ كانت حينَ كنتُ هناك، في مونروفيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.